جدليَّة فهم التراث

ثقافة 2025/01/28
...

  عادل الصويري


تمثل عملية فهم التراث مشكلة ثقافية كبيرة، لا من ناحية التنظير، بل من الممارسة الحالية لهذا الفهم، وهي التي يتداخل فيها السياسي كأنظمة، واجتماعي كمؤسسات. ثقافتنا المعاصرة اليوم تسبح في بركة تقليدية تتوهمها بحراً متلاطم الأمواج، وتتخذ من التراث سياجاً لقوة ماضوية مستهلكة، بهدف استمرارها؛ ووضع العصي في أي دواليب قادمة للتجديد. وبذلك تعمّقت المشكلة الثقافية، وشملت كل عناصر الحياة.

المشكلة في عدم تحديث الفهم السائد للتراث، والإبقاء على تقديسه من ناحية الترسيخ الماضوي، وسد الطريق على أي ممارسة نقدية ثورية واعية، وأشدد على الوعي الثوري؛ حتى لا أنتصر لأي فعل ثوري انفعالي ينتمي إلى الثورة بحسب جذرها اللغوي؛ لأنَّ كثيراً من الثورات لم يبقَ منها ومن سلوكياتها سوى هذا الجذر ذي المدلول البائس.

وحين يتصدى النقد لمفهوم التراث بحسب الفهم السائد؛ ينبغي أن يضع في اعتباراته أنَّ المشكلة ليست في التنظير والفكر، وإنما في السلوكيات الناتجة عن هذا الفهم. وبعد ذلك ينطلق النقد من زاوية المنجز الثقافي، بوصفه مرآةً تعكس التجاذبات الاجتماعية والتاريخية بحسب المراحل الزمنية التي نشأت فيها، مع ضرورة الفصل بين العناصر المنقودة، وسياقاتها الخاصة بها، بمعنى أن لا يكون نقد التراث على نحو كلّي.

حين يتصدى النقد مثلاً للتراث الشعري القديم؛ لا ينبغي أن يطرحه كاملاً على طاولة النقد والتشريح، وكأنّه لا شيء فيه. الأفضل أن يكون للنقد موقف من عمرو بن كلثوم بمعزل عن عنتر بن شداد، وكذا بالنسبة للموقف من المتنبي وأبي تمّام، وكلُّهم من التراث الشعري. لماذا هذا (المعزل)؟ لأنه سيضيء النتاج الذي نلمس فيها التقدمية أو التجديدية في منجزات تنتمي تاريخياً للتراث، تصلح لأن تكون شواهد تاريخية على نزعتها التحديثية، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه تسمية إنعاش التراث، أي قراءته بما يتوافق مع التحديث.

يرى محمد عابد الجابري أنَّ من أهم متطلبات التجديد تجاوز "الفهم التراثي للتراث"، والعبور إلى فهم حداثي متجدد "يجعل المقروء معاصراً لنفسه". وطالما نحن بصدد المثال الشعري؛ فإنَّ كثيراً من الشعراء يواجههم سؤال مريب وهو: ما هي رؤيتك للتراث؟ ثم يتفرع من السؤال سؤال آخر لا يقل ارتياباً : كيف تنظر إلى شكل العلاقة بينكما؟ فيتكفّل أدونيس بإجابة مختصرة جداً على هذا الالتباس فيقول: "لا معنى لهذا السؤال"؛ ويعلل هذه الإجابة بأنه لا يستطيع على سبيل المثال أن يحدد رؤية بملامح محددة بشأن شيء يراه غائماً وغير محدد. غير أنه من جانب آخر، يستطيع تحديد ملامح لعلاقته مع شاعر معين من التراث، بشرط معرفة معنى مفردة (العلاقة) التي جاء بها السؤال المتفرّع من السؤال السابق، إذ يشترط أن تأتي بمعنى أطلق عليه تسمية "الرؤيا الثوريَّة". المعنى الذي يأخذه إلى الاختلاف عن أسلافه العرب. وربما تكون العلاقة مع آخرين من غير العرب، أعمق من العلاقة مع الأسلاف القدماء، من دون أن يُفهم ذلك على أنه دعوة للقطيعة مع تراث الشعر العربي. إنَّ مجاورة العربي لتجارب الآخرين لا تعني القطيعة لمجرد أنها فتحت أبواباً ونوافذ جديدة؛ لأنَّ إبداع الشاعر الحديث إنما هو إبداع عربي له طموح أن يجد نفسه خارج الفهم السائد، منسجماً مع فهم جديد مغاير للطرق القديمة والمعايير التقليدية. وليس بالضرورة أن يكون بهذا الفهم قد أصبح أفضل ممن سبقه تاريخياً. هو فقط يريد أن يحيا عالمه الشعري المغاير. يقول أدونيس: "أن يتأصل الشاعر في لغته الموروثة هو أن يكون بمعنىً ما غريباً فيها".