د. موج يوسف
ما زال أغلب كتّاب وكاتبات الرواية يقعون ببئر الهشاشة المزمنة، في محاولتهم لابتكار شخصيَّة جديدة غير نمطيَّة تتمرد على الواقع الاجتماعي وتحاول أنْ تغذيه بفكرٍ يشاكس الثوابت، لكن الكاتب/ة لم يعِ رواسب الأنساق الثقافيَّة المنغرسة فيه والتي تفضحه في محاولة خروجه عن رؤية العالم، وهذا ما نجده في رواية الكاتبة ريم بسيوني بعنوان (الدكتورة هناء) الصادرة عن دار النهضة في مصر، والتي تدور أحداثها حول شخصيَّة الدكتورة هناء الأستاذة الجامعيَّة كما وصفها الراوي بالعانس والبخيلة والمغرورة التي تستيقظ صباح يومٍ ما وهو مشهد الافتتاح وهي بسن الأربعين مقبلة على السفر لمؤتمر في أميركا لكنَّ عذريتها هي القيد الأكبر الواقف بوجه فكرها ووعيها وسفرها ولا بُدَّ من الخلاص من قيود العذريَّة وفك غشاء البكارة وهذا الهاجس الذي يشغل الشخصيَّة وفعلها، وقد تبدو الفكرة للوهلة الأولى فيها جانبٌ نسويٌّ للمرأة فمن حقها الطبيعي أنْ تختار حياتها، وعلى هذا الأساس سعت الكاتبة بسيوني لتأسيس الحدث الانتقالي الذي يغير نمطيَّة الشخصيَّة البطلة هناء عبر طالبها الشاب خالد المعيد في قسمها والمتدين الذي يساعدها في تصحيح الأوراق الامتحانيَّة والتي كانت شرطاً من رئيس القسم لمنحها إجازة السفر إلى أميركا. يبدأ الراوي بضمير الغائب بالتفكير عنها ويسلب منها صوتها الداخلي مؤسساً لنسقٍ ذكوري لا يشبه المرأة كقوله: “جلست في هدوء وهي تحتسي القهوة وتنظر الى ساعة الحائط السوداء. مشكلة خالد متدين ماذا تتوقع منه؟ وهي؟ تؤمن بالله، ولكنها تشعر بحنقٍ غريبٍ وإحباط لم تشعر به من قبل. ولا ترى جريمة في أنْ تفقد عذريتها” ص 14.
يظهر وأدّ الأنوثة في الصفحات الأولى من الرواية حين ظهرت المرأة بأنها ذاتٌ ناقصة وغير قادرة على البوح واللغة؛ لذا ناب الراوي بالتفكير عنها، وهنا ينكشف الضعف الفني في بناء شخصيَّة نسويَّة مدنيَّة الطباع كما يتضح وقوع الكاتبة تحت أنساق الذكورة التي ترى (عقل النساء بين الأفخاذ) وهذا النسق تمثل بهاجس الدكتورة هناء وهمها في نزع عذريتها والذي تمّ عبر الشاب خالد في محاولة منها تخلو من الإغواء الأنثوي أو العاطفة ويظهر عقم المشاهد وإعادة تدويرها من خلال (اقتباسها من الأفلام المصريَّة) عندما تأخر خالد في بيتها أطفأت الأنوار بحجة قطع الكهرباء، وأشعلت الشمعة وفي هذه اللحظات فقدت عذريتها “لم تكن تحتاج الى خلع كل ملابسها ولم تكن تريد كل المقدمات الآن. كانت تريد تنفيذ المهمة فقط. وكانت قد وهبته الهديَّة وكانت الساعة الخامسة صباحاً وكانت متعبة ولا بُدَّ أنْ تفكرَ في أميركا والمؤتمر ونجاحها اليوم” ص 47.
هذا النص الاخباري الذي يظهر فقر خيال الكتابة وعجزها عن بناء مشهد يجسد الحالة الشبقيَّة، ويكشف عن قمعها لعاطفة المرأة وخروجها عن أنوثتها عندما اختزلت جغرافيا الجسد في منطقة العذريَّة ففي هكذا موقف جعلتها لم تحتج إلى خلع كل الملابس، ولم ترد المقدمات ولا الكلمات وهذا الخروج غير المألوف عن طبيعة المرأة يجعل القارئ يراها جسداً عقيماً غير منتجٍ للعاطفة وغير معطٍ وعقلها في عضوها الذي فقد عذريته. وبعد هذا التحول المزعوم من العذريَّة إلى الحريَّة يفترض أنْ نرى الدكتورة هناء بشخصيَّة غير نمطيَّة لكنها بدت منغلقة على الحياة واللغة. كما أنَّ الأحداث تدور في فضاءٍ منغلقٍ على نفسه بين البيت والقسم الذي صارت رئيسته وبيت أختها ليلى التي لم تر الحريَّة إلا في الفضاء الديني بعد أنْ هجرها زوجها فتقمع حياتها الطبيعيَّة: “عندما زارتها هناء ودخلت حجرتها رأت الكبرياء في عينيها كما لم ترها من قبل ورأت الثقة والسلام والزهد وقد همست ليلى في هدوء أنا لا أنظر الى نفسي كامرأة الآن يا هناء بل كروح في يد الله” نرى نسقيَّة الذكورة حاضرة ورؤية العالم واقعة في شخصيَّة ليلى التي هجرها زوجها فقررت أنْ تلغي جسدها وهذا القرار هو النسق السائد في المجتعات المشرقيَّة التي تعيب على تمتع المرأة بحياتها وتحرم عليها جسدها في غياب الزوج وأنانيته المفرطة، وهذه هي رؤية العالم التي لم تحاول الكاتبة تغييرها أو التمرد عليها بل قمعت جسد المرأة وعقلها وتركت الروح بيد الله في حين أن الدين بجوهره الأساسي لم يحرم الإنسان من حقه في المتع، بالمقابل نرى شخصيَّة الدكتورة هناء نمطيَّة تامَّة بزواجها السري من خالد وسلطويتها في المؤسسة التعليميَّة وانغماسها في مشكلاتها التي أوردها الراوي بصيغٍ إخباريَّة التي دفعت بالحدث ليتحول إلى إقصاء تامٍ للأنوثة عندما تعرضت لحادثة فقدت رحمها ومن ثم منصبها وسمعتها، يقول الراوي في سخريته من أقدار النساء “وماذا كسبت؟ لا شيء فقدت عذريتها وهذا مكسب لا شيء سوى الإحساس الذي أيقظه بداخلها هذا الإحساس المزعج بأنوثتها وهل يستحق هذا الإحساس كلَّ التضحيَّة وكل الذل والهوان” ص 163.
إنَّ خطر الخطاب النسوي المتطرف أشدُّ من النسقيَّة الذكوريَّة والفحوليَّة، وتتمثل خطورته في إلغاء العقل والجسد والإحساس بأنوثته الذي أوصلها إلى بئر الذل والإهانة فيمثل هذا الخطاب انتصار الحداثة الماديَّة على القيمة المعنويَّة للثقافة كما أنه يجسد خطابات النسويَّة الأحاديَّة التي تخرج المرأة من كيانها الإنساني وتزجها في عالم الفردانيَّة، والكاتبة ريم بسيوني نجحت في توظيفه عبر شخصيَّة الدكتورة هناء التي جلدتها بنهاية مأساويَّة في حرمانها من كل شيء حتى من بيت الأنوثة رحمها. ولا أغفل عن قضيَّة مهمة وهي ضعف الموضوع الإنساني واللاصراع أدى الى ضعفٍ البناء الفني الذي اعتمد على سرد الإخباري من دون بناء مشهد، فضلاً عن تناقض الشخصيَّة التي أرادتها نسويَّة متمردة مصلحة لمجتمعها الفاسد لكنها وقعت برواسب الأنساق الثقافيَّة.