عبد الواحد حداد.. الموصلي الذي أتقن الشجن

ثقافة 2025/01/29
...

 د. علي حداد


أعترف أني، قبل مغادرتي العراق سنة 1995 وبعض السنوات اللاحقة لها، ما كنت أعرف اسم الفنان عبد الواحد حداد، وما سمعت به ضمن الأصوات الغنائية العراقية وأجيالها المتعددة التي تحفل بها فضاءات الغناء الخصيب في العراق.

غير أنه ومن بركات (الانترنت) أن صادفني، وفي آخر سني الغربة (فيديو) لهذا الفنان يؤدي فيه بعض اطوار الغناء الريفي العراقي.

وسأعترف ثانية أن ما جلب انتباهي ان اسمه يتطابق مع اسمي، وابن بلدي الذي عايش الاغتراب مثلي، وإن كان مغتربه أبعد (النمسا) وأقل في سنواته مني. 

كان عبد الواحد في ذلك الفيديو يؤدي أطوار (الأبوذية): (المحمداوي والشطراوي والحياوي والشطيت)، وسواها من الأطوار بتسلسل، وبقصد تعريف من كان يحاوره عملياً بكل منها. 

وكان صوته يخبر عن تمكن ومقدرة مدركة للسمات الأدائية التي يمتاز بها كل طور. 

ولأني مهتم بشأن الأبوذية وأطوارها فقد سارعت إلى البحث عن صفحة هذا الفنان المترع بالشجن، فكانت المفاجأة المفرحة والمدهشة معا أنه ابن الموصل ولادة وانتماء، فهي مدينته التي يتقن لهجتها وغناءها كذلك، ولكن إرهاصات مثاقفته الغنائية، ومرتكزات تأسيسها كانت قد وجدت مبتغاها الأرحب في غناء جنوب العراق وأصواته الريفية المتميزة، وذلك ما أشار إليه في واحد من أحاديثه، مخبراً عن تأثره في بداياته بالمطربين: حضيري أبو عزيز، داخل حسن، ياس خضر ورياض أحمد، وتلك مسألة جديرة بالتأمل، فالمعتاد أن تتأسس الموهبة ويصقل الصوت على ما يتردد إزاءهما من ثقافة المكان الغنائية التي تفرض اشتراطاتها عبر مداومة الحضور وسطوة التأثير وتواصله.

ولكن عبد الواحد استوعب فن مدينته وأتقن فروضه، وكان منذ بداياته بعيد التطلع والوعي بأن فضاء الغناء العراقي أكثر سعة مما يتنادى حوله.

وأن الإصغاء إلى منجزه المتسع التشكلات والتنوع هو ما ينبغي له التواصل معه، ليصقل تجربته ويؤكد عمق مكتنزاتها ويمدها بمساحات من الأداء تتوافر عليها إمكاناته الصوتية، عبر مجاراتها لأنواع الغناء العراقي، ولاسيما الريفي منه، وفي فنونه: الموال والدارمي والأبوذية.. التي لم يكتف بإجادته تأدية أطوارها، بل اتقن اشتراطاتها الفنية، وراح ينظمها بإجادة لافتة، وهو بذات الوقت يؤلف ويلحن اغانيه بنفسه، وهذا يكشف عن دأب ثقافي اختطه هذا الفنان لشخصيته، فتحقق له فيه خصب التمكن من الصياغات الشعرية واللحنية، التي يتفرد بها عن سواه من

المطربين.

ولظروف غريبة الوقائع فقد حجب صوته من أن يصل إلى أسماع الناس في مرحلة التسعينيات وما قبلها، فما كان أمامه إلا أن يتجه إلى تسجيل أغانيه على أشرطة (الكاسيت) في مدينته لينال شهرته فيها، فتنتبه لاحقاً بعض الشركات الفنية في العراق وبعض البلدان العربية المجاورة، التي عرفت بصوته فجاءته تسعى لتسجيل أغانيه.

يمتاز صوته بنقاوته مع بحة دافئة النبرة، ومقدرة تنغيم يتصاعد بوحها بانسجام شعوري، من دون أن تفارق عاطفة الصوت تجسيد المعنى ونصاعة الترنم بالمفردات.

خصوصية صوته، تحيلك إلى استحضار بعض ما لـ (داخل حسن) من مساحة صوتية تتجلى بأطوار أبوذياته، وبعض ما لـ (رياض أحمد) في مواويله، ولن يفوتك أن تتلمس فيه نبرة من صوت (قحطان العطار) في شجنه الحميم. 

يأتي ذلك كله بانسجام أخاذ يغادر فيه سمة التقليد ليعلن عن مكتنزات صوته الخاص الذي يتهامى عذوبة ودفئاً، وأصالة انتماء لبيئات الأبوذية العراقية وأطوارها الشجية التي لاحصر لها، ليأخذ بالمستمع الى فضاءات الريف العراقي الجنوبي، حيث حفيف النخيل وتماوج ماء النهر حين يتهادى على صفحته زورق يقبل مجذافه خدود الماء التي تتصافق ترانيمها 

حوله.

فأنا لست بناقد غنائي، ولكني متلق يشدّه الصوت المترع بقيم وجماليات يستمدها من خصائص بيئته الوطنية التي يتمثل صاحبه فيها مشاعر إنسانها والتياعات بوحه، ويعيد انتاجها بمثاقفة واعية وحساسية بوح صادقة.

وذلك كله مما توافرت عليه المقدرة الأدائية للفنان عبد الواحد حداد، وهو يستعيد شجن الريف العراقي بتعدد بيئاته، وذلك كله رصيد من التميز لفنان عراقي أصيل نحتاجه وأمثاله اليوم في ظل تردي الغناء الراهن وانحداره إلى سذاجة المعاني التي لا تليق بتراثنا الغنائي الذي تربت عليه ذائقة أجيال فأترع وجدانها بفيوضه القيمية 

والجمالية. 

عبد الواحد حداد صوت شجن عراقي أصيل جديران بأن نصغي له.