بعد ولادات متعسّرة

الرياضة 2025/02/04
...

  كتب خالد جاسم:


 مؤكد أنَّ التنافس في كل الألعاب الفردية منها والجماعية في الدورة الأولمبية هو تنافس ساخن وشديد بين مدارس متقدمة ومنتخبات عريقة وكبيرة كما هو صراع تفوق مضنٍ وقاسٍ بين أبطال متمرسين يمتلكون كلّ معايير التفوق الشرس وصنعتهم بلدانهم على مدى سنوات ليكونوا أبطالاً بحق وحقيقة وتُرسم عليهم الآمال الكبار في تأكيد هذا التفوق ميدانياً في المناسبة الرياضية الأهم والأكبر التي تجرى كل أربعة أعوام وهي الدورة الأولمبية حيث يكون مقدار الأوسمة التي يحققها كل بلد في جدول المنافسة معيار التقدم الحقيقي لهذه البلدان في عالم الرياضة, كما أنَّ طبيعة هذا التنافس ومن خلال البرامج العلمية والحسابات الموضوعية تعني بمنتهى البساطة ومن دون غوص في التفاصيل الفنية والحسابات العلمية أنَّ تلك الدول تستغرق ما لا يقل عن أربعة أعوام في صناعة كل بطل رياضي تعلق عليه الطموحات في التنافس على أحد الأوسمة الأولمبية ووفق معادلات رياضية تحسب الجهد والزمن والأرقام من خلال إعداد علمي مبرمج واحتكاك دائم ومن ثم تأتي النتائج في الأولمبياد وفق حسبة دقيقة وليست نتاج ضرب من الخيال أو صنيعة الصدفة أو الحظ. والواقع أنَّ قضية صناعة البطل الذي يمتلك مواصفات تحقيق الإنجاز الأولمبي أخذت وقتاً طويلاً واستنزفت جهوداً وخبرات وأمانات فنية ومالية من دون أن تفضي إلى نتائج مثمرة لأسباب وعوامل كثيرة سنأتي على ذكرها في سياق هذا التقرير الاستقصائي.


 التفاتة حكومية

وجّه مؤخراً دولة رئيس مجلس الوزراء، محمد شياع السوداني، بتشكيل فريق لإعداد مشروع صناعة بطل أولمبي وبرامج واستراتيجيات لتحقيق الإنجاز الرياضي في الدورات الأولمبية المقبلة.

وجاء في الأمر الديواني الصادر عن مكتب رئيس الوزراء أنه استناداً إلى توجيه رئيس الوزراء، تقرّر تشكيل فريق برئاسة مستشار رئيس الوزراء لشؤون الشباب والرياضة، إياد بنيان محمد وعضوية كل من وكيل وزارة الشباب والرياضة حسن علي كريم، وعميد كلية التربية البدنية وعلوم الرياضة في جامعة بغداد د. صباح قاسم خلف، ومدير عام التربية البدنية والنشاط المدرسي في وزارة التربية محمد إبراهيم عبود، ومدير عام الشؤون الرياضية في إقليم كردستان سردار إسماعيل حويز، وأستاذ التربية الرياضية في السليمانية آزاد محمد نوري، وممثل عن اللجنة الأولمبية الوطنية د. تيرس عوديشو انويا. وأوضح أنَّ مهمة الفريق إعداد مشروع لصناعة بطل أولمبي وإعداد البرامج والاستراتيجيات اللازمة لتحقيق الإنجاز الرياضي العالي في الدورات الأولمبية المقبلة من خلال إعداد وصياغة متكاملة للمشروع وتحديد الميزانية المطلوبة ووضع ضوابط ولوائح مالية وإدارية وفنية واختيار الألعاب المشمولة، وتحديد البرامج التدريبية والمدارس العالمية التي يمكن الاستفادة منها ومناقشتها والمصادقة عليها والتوجيه باختيار المدربين والخبراء (محليين، دوليين) لغرض التعاقد معهم واختيار المنشآت الرياضية المناسبة بالتنسيق مع وزارات الشباب والرياضة والتربية والتعليم العالي والبحث العلمي وتحديد الأدوات والمستلزمات الضرورية والإيعاز بتوفيرها. هذه الالتفاتة الحكومية المهمة تعكس مدى الاهتمام الحكومي بالقطاع الرياضي الذي يمكن القول إنه لم يحظ بمثل هذا الدعم من قبل السلطة التنفيذية العليا على مدى تاريخه وتحديداً بعد عام (2003) كما تترجم هذه الالتفاتة الكبيرة متابعة حثيثة من قبل السيد رئيس مجلس الوزراء للواقع الرياضي وتحسساً صميمياً بحاجة الرياضة العراقية إلى حاضنة رسمية تتوافر فيها كل المتطلبات والمستلزمات المادية والبشرية من أجل بلوغ الإنجاز الأولمبي الذي طال انتظاره.

 

الوزارة والأولمبية وما بينهما

تعدّ دورة الألعاب الآسيوية أكبر تجمع رياضي تشهده القارة مرة واحدة كل أربعة أعوام فهي بمثابة أولمبياد مصغر بل أنَّ الأسياد يأتي بالمرتبة الثانية عالمياً بعد الأولمبياد من حيث كثافة الحضور وعدد الدول ومجموع الألعاب والفعاليات الرياضية الفردية منها والجماعية، ولذلك تمنحه الدول الآسيوية المتقدمة رياضياً بشكل خاص أهمية قصوى كونه بمثابة المطبخ الحقيقي الذي تصنع فيه تلك الدول وفق برامج إعداد علمية مشاريع نجوم وأبطال الذهب في كل تلك الفعاليات وتحضيرهم للأولمبياد بعد دراسة وتقييم نتائجهم وأرقامهم وحصيلتهم من الأوسمة في الدورة الآسيوية، وكثيراً ما شاهدنا خيرة الأبطال الأولمبيين من القارة الصفراء قد كانت منافسات الدورة الآسيوية هي محطة انطلاقتهم الواثقة والحقيقية نحو مراتب التقدم والأوسمة الملونة على المستوى الأولمبي. وعلى الصعيد العراقي وقبل وبعد كل مشاركة لنا في الدورة الآسيوية يتساءل بعضنا ويقول: هل نحن نمتلك فعلاً مقومات تؤهلنا لحصد الأوسمة وتحقيق النتائج التي تضعنا في مصاف الدول الآسيوية المتقدمة؟ الجواب بكل بساطة هو كلا بل وألف كلا كما هي حال مشاركاتنا ذات الطابع الرمزي في الدورات الأولمبية وصار حلم الحصول على وسام أولمبي ثان يضاف إلى وسام الخالد الذكر عبد الواحد عزيز مثل حلم العصافير.. والأسباب هنا معروفة لنا جميعاً والكل يتحمل المسؤولية وليس من المنطق بل وحتى من المعقول أن نتهم هذه الجهة أو تلك مع الاعتراف هنا طبعاً بتقصير اللجنة الأولمبية على صعيد غياب التخطيط العلمي في رياضة الإنجاز على مدى العقود الماضية وهو تقصير تتحمله كذلك الاتحادات الرياضية كما تتحمله وزارة الشباب والرياضة لأنها الجهة المسؤولة عن توفير البنى التحتية الأساسية والتي بدون توافرها وحضورها الفعلي وليس على الورق أو في كرنفالات وضع الحجر الأساس التي لا تغني ولا تسمن من جوع وهي مشكلة مزمنة ولها جذور وترسبات ترتبط بالحقبة الزمنية الماضية، حيث استنزفت الكثير من الأموال والجهود في مشاريع ومنشآت بعضها ولا أقول معظمها غير ذي جدوى للرياضة والرياضيين كما لم يتمكن جهابذة التخطيط وعباقرة التدريب من بلوغ العتبة الأولى في صناعة مشروع بطل أولمبي عراقي.. وكيف نطلب من اللجنة الأولمبية التي تتقاذف عليها سهام النقد حقاً أو باطلاً أن تنهض بالتخطيط الصحيح ووضع استراتيجية عمل رياضي سليم وهي تفتقد العديد من المقومات المهمة الغائبة، وكيف نتوقع من اتحادات رياضية معظمها مبتلية بشتى الأمراض والعلل أن تنتج لنا أبطالاً آسيويين أو أولمبيين، حيث صناعة البطل في كلتا الحالتين وفق المواصفات الحقيقية لن تتحقق بالسفر والمعسكرات التدريبية فقط بل تحتاج إلى خلق بيئة رياضية صحية وصحيحة في داخل البلد أولاً وأخيراً.. وهنا تسكب العبرات والحديث مؤلم جداً وذو شجون وعُقدت من أجله مؤتمرات ورُسمت له استراتيجيات على الورق كما رُشّحت له حلول ومعالجات لكن بقيت الحال على ما هي عليه وستبقى كذلك بكل تأكيد، وهي مسؤولية يجب أن ترتدي ثوباً تضامنياً شاملاً تشارك فيه كل الجهات المعنية بالرياضة. وهنا يقفز إلى ذهني تصريح لوزير الشباب والرياضة الأسبق عدنان درجال وكان ذلك في تموز (2022) عندما تحدث آنذاك عن جهود الوزارة في إنجاز مشروع البطل الأولمبي وجاء في نص حديثه: (العمل متواصل بمشروع البطل الأولمبي الذي سعت إليه وزارة الشباب لخلق أبطال رياضيين ذوي مستويات عالية يحقّقون إنجازات أولمبية وعالمية, والوزارة أكملت جميع المتطلبات التي من شأنها إنجاح هذا البرنامج المهم، ولم يتبقّ سوى استقدام مدير تنفيذي لإدارة هذا المشروع الكبير وتواصلنا مع مجموعة من الأشخاص لإتمام هذا الموضوع خلال الفترة المقبلة وهذا المشروع حالياً يتناول الأعمال الصغيرة والعمل قائم على تطويره وبالتالي فإنَّ ثماره ستقطف في أولمبياد (2028) من خلال التكاتف والمتابعة المشتركة لكل تفاصيل العمل بشكل مهني واحترافي من أجل صناعة بطل أولمبي في مختلف الألعاب ويكون رافداً للمنتخبات الوطنية ويرفع اسم العراق عالياً في المحافل  الدولية).


 آليات متخلفة

الخبير الرياضي المعروف الدكتور باسل عبد المهدي الذي يعد أكثر الشخصيات الرياضية العراقية التي عملت ومن خلال تماس مباشر أحياناً وغير مباشر في أحايين أخرى مع المشاريع الاستراتيجية في الرياضة غالباً ما تكون وجهات نظره صريحة حدّ القسوة في تناول مثل هذه الأمور الحيوية وهو في سياق تناوله مشروع صناعة البطل الأولمبي قد كتب قبل مدة زمنية وجيزة قائلاً: (ليس مهمًّا بمكان أن نتحدّث بما هو صحيح وإنما المهمّ أن نعمل ما هو صحيح. نقول ونكرّر ذلك لأن غالبيّة الاتحادات الرياضيّة العراقيّة، كما هي الحال في اللجنة الأولمبيّة وهي الجهات الرسميّة المعنيّة في صناعة الإنجاز ما زالت متمسّكة بأساليب وآليّات عمل بالية ومُتخلّفة تركها العالم المتحضِّر رياضيًّا منذ عهود. إنَّ أنظمة المسابقات السنويّة المعتمدة في برامج أغلبيّة الاتحادات الرياضيّة في بلدنا إما مُغيّبة أو ما زالت تخضع إلى اجتهادات مزاجيّة وشخصيّة حوّلتها في الغالب إلى مشاريع انتخابات!! كذلك فإنَّ كميّة الحمولات التدريبيّة المُسلّطة على الرياضيين العراقيين عمومًا في وحداتهم التدريبيّة من ناحيتي الكم والنوع أيضًا تعد ضعيفة مقارنة بما يوظّف اليوم من وسائل في عالم البطولات، الحالة التي يستحيل معها أن تعطي المردودات التي وَعَدَنا بها. فبدلاً من نظام التقسيم السنوي وتوقيتات منافساته المعروفة، تحوّلت الرياضة وأنشطة غالبيّة الاتحادات فيه إلى رياضة سفر ومعسكرات خارجيّة، لم تعطِ ولن تعطي ثمار استخدامها المكلّف لأنها أمست وكأنها وسيلة للسياحة ولعدد محدود جدًّا من الرياضيين). ويضيف عبد المهدي في سياق تعليقه النقدي (وبلا أي شكل من الرياء نؤكّد أنَّ الدعم المباشر من قبل دولة رئيس مجلس الوزراء يُعد أمرًا مفيدًا وفي غاية الأهميّة، إلا أنَّ مشاريع من هذا النوع يفترض أو يجب أن تحاط بسريّة وألّا يتم التداول بها عبر الفضائيّات أو وسائل التواصل الاجتماعي لأغراض إعلاميّة لا مبرّر لها، ومن المؤلم حقاً أن نقوم بستر إخفاق إدارتنا للمسؤوليّة عبر مثل هذه التصوّرات نحو تطلّع غريب تمتدّ غاياته لثماني سنوات مقبلة حتى دورة الألعاب الأولمبيّة عام 2032 في أستراليا!!). كذلك فإنَّ الدكتور باسل عبد المهدي يوجه ما يشبه العتب إلى مسؤولي الرياضة بقوله: (ليس مُعيبًا أن يعترف الإنسان ويتراجع عمّا ارتكبه من هفوات أو أخطاء في منهاج عمله لأجل تصحيح مسيرة العمل وضمان نتائجه وهو ما لم نشهده في عمل أي من الاتحادات الرياضيّة خلال الحقبتين ونيف المنصرمة. كما أنَّ الإخوة من المتصدّين في المواقع الأعلى في القرار الرياضي منذ سنوات. يتفطنون الآن لموضوعة صناعة البطل الأولمبي ولمهمّة تستوجب الصبر حتى العام 2032 والدورة الأولمبيّة في أستراليا).


حلول واقعية

وضع الدكتور باسل عبد المهدي في سياق تناوله النقدي ملخص رؤاه في الحلول الممكنة لمشكلات الرياضة من أجل توفير البيئة الصحية لولادة مشروع صناعة البطل الأولمبي وأوجز ذلك بما يلي:

- لكي نتجنب ما سيصيبنا من أذى نتيجة سهام المتطفلين تجاه مضمون هذه المقالة. كذلك لكُل من يؤمِن أو يروّج بأنَّ المال وحدهُ من يستطيع أن يصنع إنجازات دون فكر بناء حديث أو خبرات علميّة تنتهج سياسة رياضيّة منتجة تستمدّ أسسها من صلب المشكلات والأوضاع والتقاليد والظروف السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والجغرافية والمناخيّة والتاريخيّة أيضًا. نقول كي نتجنب كُل ذلك نعود إلى تكرار ما واصلنا إعلانه ونشره، ملخصه ما يلي: (لن تقوم قائمة لرياضة بلدنا العزيز لتحقيق ما تطمح إليه من إنجازات دون السعي لإعادة بناء هيكل تنظيمي جديد للرياضة العراقيّة ومؤسّساتها كافة. هذا الأمر يمكن أن يتم عبر الإجراءات التالية ونعرضها باختصار:

1 - تشكيل المجلس الوطني الأعلى للرياضة في العراق برئاسة أحد نواب رئيس مجلس الوزراء، يضمّ في عضويّته ممثلي الوزارات المعنيّة ومجالس المحافظات والإقليم إلى جانب اللجنة الأولمبيّة وعدد من الخبراء ويعمل بموجب نظام خاص يُعد ويقرّ (قانونيًّا) لهذا الغرض.

2 - إعادة النظر في الصيغة والشروط التي تؤسّس وتعمل بموجبها الأندية الرياضيّة الأهليّة والمؤسّساتية ومواصفات ومسؤوليّات إداراتها.

3 - كذلك الحال بالنسبة للاتحادات الرياضيّة ومناهج أعمالها وحصيلة نتاجاتها سنويًّا.

4 - تنظيم قيام حملة وطنيّة شاملة لإعادة دروس الرياضة الإلزاميّة الأسبوعيّة في نظام التعليم بكُلّ مراحله وللجنسين. دروس إلزاميّة منهجيّة توظف انسجامًا مع النموّ البدني والتطوّر الفسيولوجي للتلاميذ والطلبة من الجنسين، وليس السباقات الرياضيّة المدرسيّة التي هي أيضاً بحاجة إلى إعادة نظر جذريّة في محتواها ومنهاج تنفيذها.

إنَّ الوصول إلى تحقيق كُل ذلك بنجاح ملموس يفترض أن يستند إلى أرقام ومعلومات وقاعدة من البيانات الإحصائيّة الحقيقيّة، لا نجد أي داعٍ لعرضها بتفصيلاتها لأنَّ النتائج التي أثمرت مشاركة الرياضيين والمنتخبات العراقيّة على الصعيدين القارّي والدولي وحتى العربي وكذلك الأولمبي، في الحقبتين المنصرمتين تفصح بجلاء عن الموجبات هذه كما وتؤشر أيضًا للهوّة الكبيرة بين المنفق وحصيلته.

ويختتم الدكتور باسل عبد المهدي جوهر رؤيته بقوله: نطمح لرياضة تعطي أكثر ممّا تأخذ وتعمل أكثر ممّا تتكلّم وتطالب. رياضة تنغمس في حضن الوطن، وفية لمصادر رزقها، لا تستقوي بالغريب على القريب ولا بالكاذب على الصادق، رياضة خالية من الموبقات، أمينة مع قَسَمِها ولا تلهيها اتفاقات الغرف المُظلمة..

رياضة لا تهوى تكديس المواقع ولا تنشغل بالترحال المتواصل والبطولات الوهميّة.. رياضة تتعلّم أكثر ممّا تُعلِّم، لا تهتمّ بالفبركات والوعود الدعائيّة الفارغة، رياضة زاهِدة في سلوكها أمينة نحو تطلّعاتها، تعرف ماذا تتكلّم وتفكّر بما ستتكلّم..!!