صحوة برلمانيَّة متأخرة

آراء 2019/07/05
...

عباس الصباغ 
الانتخابات جوهر العملية الديمقراطية والغاية الأساسيَّة منها وفي أبسط مصاديقها الكلاسيكية والمتجسدة بتمثيل الشعب تمثيلاً وفق الأطر النزيهة الشفافة، ومن علائم سلامة مسار البوصلة الديمقراطية في البلد في مسارها الصحيح هو أنْ تنماز الفعاليات السياسيَّة في إطارين؛ الأول التنفيذي وهو الانخراط الفعلي في المضمار الحكومي وفي جميع مفاصل السلطات الحكوميَّة الثلاث، والثاني الانزواء تحت هامش العملية السياسية والتقهقر عن المشاركة في الاداء الحكومي والاكتفاء بمراقبته وتقويمه في ما يسمى وفق الديمقراطيات العريقة بـ”حكومة الظل” التي بات العراق في أمس الحاجة إليها الآن وهي شكل من أشكال المعارضة السياسية وهذا شيء طبيعي جداً في النظم الديمقراطية ودليلٌ على نضج العملية السياسيَّة في البلد ان وجدت كما هو مأمول.
فإنْ صحت الأخبار عن توجه كتل برلمانية كبيرة الى تبني أسلوب المعارضة البرلمانية ـ بحسب الموسوعة الشاملة ان المعارضة في السياسة هي جماعة او مجموعة افراد يختلفون مع الحكومة على اساس ثابت وطويل، وينطبق المصطلح بشكل اكثر تحديدا على الاحزاب في الأنظمة الديمقراطية وداخل قبة البرلمان التي تختلف مع الحكومة وترغب بالوصول الى السلطة ـ فان الامور بهذا الشكل بدأت تبشّر بخير وان العملية السياسية التي كانت تعاني من داء عضال او من موت سريري موشك بدأت تتعافى ولأول مرة بعد التغيير النيساني، بعد ان انغمرت جميع الكتل بدون استثناء بالمضمار الحكومي، فهذه شيزوفرينيا سياسية غير مقبولة، فكيف يمكن لسياسي ان يحكم ويقوّم اداءه بنفسه في ذات الوقت؟ وزاد الطين بلة ان العملية السياسية لم يرافقها خطأ بنيوي في التأسيس الدولتي فقط وانما سارت وفق منهج الديمقراطية التوافقية بأسوأ صورها فتواشجت الاخفاقات التأسيسية على مدى اكثر من عقد ونيف، ما ولّد الاحباط وخيبة الأمل التي عاشها المواطن العراقي بسبب الفساد المالي والإداري الذي استفحل في جميع أروقة ومفاصل الدولة العراقية ولا يزال، فلم تتجذر فكرة ثقافة المراقبة وتقويم الأداء الحكومي المعمول بها في الديمقراطيات العريقة كبريطانيا مثلا وهي ام حكومات الظل المعارضة سياسياً والرائدة في هذا المجال ولها قصب السبق فيه، يضاف اليها الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية وغيرها، فهنالك حكومة معارضة تتشكل فيها بالتزامن مع تشكيل الحكومة التنفيذية فيها تساير الحكومة الفعلية وتراقب أداءها ولا تتركها تفعل ما تشاء من دون حسيب او رقيب.
كمواطن عراقي التمني لا يزال مشوباً بحذر من هذا التوجه الذي يجب أنْ يكون بحسن نية وللصالح العام وليس لأي غرض سياسي آخر لأنَّ ثقافة مغادرة مربع الانخراط الكلي والفعلي في الأداء الحكومي قد جاءت في العراق متأخرة جداً ولكن ما زال في الأفق متسعٌ للعمل إنْ كانت نوايا المعارضين أو المعترضين سليمة (ان تصل متاخراً خيرٌ لك من ألا تصل أبداً) فالوصول الهش خيرٌ من عدم الوصول بتاتاً.
الديمقراطية الناضجة هي التي لا يستاثر الفرقاء السياسيون بالسلطة من اجل مغانمها ومكتسباتها من جهة، ومن جهة اخرى من المنطقي أنْ يتقبل الخاسرون في الانتخابات النتيجة لا سيما إنْ كانت صناديق الاقتراع هي التي حسمت بياناتها وإنَّ هذه “الخسارة” هي ليست نهاية الحياة السياسيَّة، بل العكس الانضواء تحت هامش الحياة السياسية (حكومة ظل) يعطي زخماً سياسياً ودافعاً آخر للاستمرار فيها.
وللأسف فإنَّ الفرقاء السياسيين العراقيين المتصدين للقرار السياسي وعلى جميع مشاربهم لم يهضموا بعدُ فكرة المعارضة وتشكيل حكومة ظل بموجب هذه الفكرة التي ظلت بعيدة عن مخيلتهم وظنوا انهم وفي حال وجودهم خارج نطاق الحكومة الفعلية سيكونون “محرومين” من الامتيازات التي يحصلون عليها وهم داخل الحكومة، كما أنه سيراكمُ خبرة سياسيَّة في حال تصدّر (حكومة الظل) مرة أخرى للواجهة السياسيَّة وتكون حكومة فعليَّة، لأن المناخ الديمقراطي الرصين والنزيه يمنح هذه السلاسة والمرونة. فقد آن الأوان للاتجاه نحو المعارضة البرلمانيَّة الفعالة التي تقوُّم الأداء وتفعّل آليات الرقابة على السلطة التنفيذيَّة من خلال تأشير الخلل في مشاريع القوانين المقدمة من قبل الحكومة أو عمل الوزراء أو اعتراضها على إهمال تنفيذ فقرات البرنامج الحكومي. والواقع العراقي لا يزال محتاجاً الى تأسيس ثقافة المعارضة البرلمانيَّة الحقيقيَّة وإنْ كانت في حدودها الدنيا.