من مفكرتي.. صفحات مخفيَّة في حياة عمو بابا

الرياضة 2025/02/11
...

  خالد جاسم 


 خلال مسيرتي الصحفية الطويلة في عالم الرياضة, سجّلت مفكرتي الكثير من القصص والمواقف والحكايات والحوادث التي يمتزج فيها الحزن والفرح.. المضحك والمبكي.. الصادم والمتوقع.. فكرت في إصدار مؤلف يوثق هذه الذكريات وهو مشروع مستقبلي قريب إن شاء الله وسوف أبدأ عبر “ملحق الصباح  الرياضي” وبشكل شهري توثيق هذه الذكريات مع حرصي الشديد على أن تكون المحطات والمواقف والحكايات بوجود شهود حاضرين الآن بيننا تعضيداً للمصداقية من جهة ولتكون الحقائق أكثر قوة من جهة ثانية، وستكون باكورة هذه الذكريات مع شيخ المدربين الراحل عمو بابا رحمه الله. 


 الصفحة الأولى.. مسقط واتصال ومذكرات

 بعد أن أزف غروب يوم (27 أيار 2009)، رنّ هاتفي الموبايل وظهر على شاشته رقم غير مألوف لدي تصورته من صديق أو زميل أو شخصية يتصل بي صاحبها من خارج العراق وعندما أجبت عن المكالمة كان صوت المتصل هو السيد بشار مصطفى (رحمه الله) النائب الأول لرئيس اللجنة الأولمبية العراقية وكان صوته متهدجاً تمتزج فيه حشرجة الألم ويغلب عليه البكاء الصامت، إذ نقل إلي الخبر- الفاجعة- وقال لي الأخ والصديق بشار مصطفى إنَّ عمو بابا توفاه الله قبل قليل في المستشفى في محافظة دهوك وهو يقف إلى جانبه، ولم يتمالك الرجل نفسه وأغلق هاتفه.

صراحة.. لم أفاجأ بالخبر لأني وببساطة شديدة كنت متوقعاً رحيل شيخنا الكبير- أبي سامي- في أي لحظة وبالنظر لسوء الاتصالات اضطررت إلى إرسال (مسج) سريع إلى الزميلين هشام السلمان وخليل جليل بخبر رحيل عمو بابا كونهما يعملان في وكالتين كبيرتين للأنباء ولكي يسرعا في بث الخبر عبر الوكالتين، ومن دون أن أتأكد ما إذا كانت رسالتي قد وصلتهما بالفعل لجأت بعدها إلى الإنترنت وعملت ثلاثة تقارير موجزة عن عمو بابا وأرسلتها على الفور إلى صحف عربية أتعامل معها.. وفي ساعة متأخرة من المساء اتصل بي الأخ والزميل الصحفي الرياضي السعودي سعد المهدي رئيس تحرير صحيفة (الرياضية) السعودية مستفهماً مني عن صحة خبر وفاة عمو بابا فأكدت له الخبر مع خلفية مبتسرة عن الأوضاع الصحية العصيبة التي عاشها الراحل على فراش المرض. والواقع أنَّ الزميل سعد المهدي عندما التقينا في مسقط في خليجي (19) وكنا ضيفين على (الجزيرة الرياضية) قد طلب مني تدبير رقم هاتف الراحل عمو بابا الذي كان متواجداً في وقتها في الحدث الخليجي وأعطيته الرقم الخاص بعمو بابا ولم أشأ سؤاله عن الغاية من طلبه.. وعندما اتصل بي الأخ سعد المهدي مساء يوم أعقب وفاة عمو بابا ذكّرني بتلك التفاصيل وقال لي: هل تعرف يا خالد أنني اتصلت بعمو بابا وقابلته بعد ثلاثة أيام في مسقط ونقلت له رغبتنا بنشر مذكراته في صحيفة الرياضية مقابل ما يطلبه من أي مبلغ مهما كان كبيراً كثمن لتلك المذكرات. وقبل أن أسال محدثي عن جواب عمو بابا عن العرض السخي استدرك سعد المهدي قائلاً: اعتذر مني عمو بابا بأدب كبير وطلب مني التريث في الاتفاق لحين عودته إلى بغداد لأنه يخشى- بسبب حراجة وضعه الصحي- أن يتوفاه الله في العاصمة العمانية مسقط. وكشف الزميل سعد المهدي أنه كان ينوي معاودة الاتصال بعمو بابا في غضون الأيام المقبلة لأجل إقناعه بالقدوم إلى العاصمة السعودية الرياض ليقضي ما يشاء من الوقت للراحة والاستشفاء ولأجل المباشرة بمشروع المذكرات الذي لم يكتمل بل ولم توضع أحرف اتفاقه الأولى لأنَّ مشيئة الرب كانت الأقوى.


 الصفحة الثانية.. في بيت فرانسوا حريري

 بيني وبين الراحل عمو بابا علاقة أستطيع القول إنها علاقة من نوع خاص تعدّت الإطار التقليدي في العلاقة المعتادة بين صحفي ورجل رياضي وعلى مدى أكثر من ربع قرن، مرَّت بتلك العلاقة أحداث وحوادث بعضها ظل مختزناً في الذاكرة تحت بند- سري جداً- ومنها هذه الحادثة.

الحادثة تعود إلى العام (1999) وكنت في وقتها رئيساً لتحرير جريدة رياضية يومية وكان الإخوة والأصدقاء الكرد في شمال الوطن يأتون للزيارة واللقاء في مقرّ الجريدة، وكان من بينهم الزميل والصديق وليد أنور مراد الذي كان يزورني بين الحين والآخر جالباً لي معه مجموعة من صحف المعارضة- وقتذاك- ومنها صحف طريق الشعب والوفاق وغيرها من المطبوعات التي تندرج في بند- الممنوعات- لكنَّ الأخ وليد كان ماهراً ومحترفاً  في إخفاء تلك الصحف في مكان سري في سيارته (تويوتا  كرونا) كما كان وليد دائم الإلحاح علي بالقدوم إلى أربيل وملاقاة أصدقاء وشخصيات لا تستطيع الحضور إلى بغداد وتربطني بأصحابها علاقات مودة وصداقة. ورغم حساسية العلاقة شبه المقطوعة بين بغداد وكردستان في ذلك الوقت إلا أنني نجحت في استحصال الموافقة على السفر إلى أربيل بإجازة مدتها ثلاثة أيام فقط. وفي أربيل كان الشيخ الراحل عمو بابا قد دُعي قبل وصولي بيومين لإلقاء محاضرات تدريبية على مدربي الكرة في أربيل وبقية مدن كردستان وحال وصولي للمدينة اصطحبني الأخ العزيز وليد أنور إلى المركز الثقافي على ما أعتقد في أربيل وهو شبيه بما يسمى بـ(بهو البلدية) في بقية المحافظات العراقية فلمحني عمو بابا من بعيد وأنا أدخل القاعة وكان- رحمه الله- متصدراً المنصة وهو يتحدث عن تجاربه في الميدان الذي عشقه وأحبه حتى الممات.. ميدان التدريب الكروي، شاهدت ملامح الدهشة الممتزجة بالسرور على محيّا أبي سامي عندما رآني أدخل القاعة، حيث أخذ على حين غرة بمقدمي لأنها مفاجأة غير متوقعة على الإطلاق في ظل الظروف والأوضاع المعروفة والمعقدة آنذاك خصوصاً أنَّ الموافقة على سفر عمو بابا إلى أربيل قد استحصلت بصعوبة بالغة بواسطة اتحاد كرة القدم العراقي. وبعد انتهاء المحاضرة والسلام والعناق بيننا كان موعد لقائنا في ملعب أربيل عصر اليوم نفسه، حيث كانت هناك مباراة في الدوري بين أربيل والميناء. وفي الملعب كنت أجلس قريباً من الخط الجانبي وسط مجموعة من الأصدقاء والمحبين بينما جلس عمو بابا في المقصورة الرئيسة إلى جانب الراحل فرانسوا حريري الذي كان يشغل في وقتها منصب محافظ أربيل قبل أن يتوفاه الله في حادث إرهابي ويُطلق اسمه على ملعب أربيل الحالي.

بعد المباراة مباشرة وعند عودتي إلى الفندق اتصل بي عمو بابا وكان إلى جانبي الأخ عادل القصاب الذي كان مشرفاً على مباراة أربيل والميناء والأخ وليد أنور فحادثني أبو سامي وقال لي إنَّ السيد فرانسوا حريري يبلغك السلام وأنت مدعو ومن معك الآن لتناول العشاء في داره.. والواقع كانت هذه الدعوة لها وقع الصاعقة علي خوفاً من تسرب أمرها إلى بغداد ويحدث ما لا تحمد عقباه لأني كنت متخيلاً السيناريو الأسوأ الذي ينتظرني في حالة قبول الدعوة.. ولا أدري حتى الآن كيف وافقت وتوجّهنا فعلاً نحن الثلاثة إلى بيت المحافظ الشهيد فرانسوا حريري في منطقة شورش في أربيل وكانت ليلة جميلة لا تنسى في ضيافة المحافظ الراحل الذي تحدث في الرياضة وكرة القدم التي يعشقها وسط ضحكات ومداخلات عمو بابا الذي غمزني برمشه قبل انتهاء اللقاء- الدعوة- في بيت حريري وفي الخارج بعد توديعنا من قبل الراحل حريري سحبني عمو بابا جانباً وقال لي بالنص: اطمئن يا خالد لن يتسرّب خبر حضورنا اليوم في بيت هذا الرجل الرائع ولن يصل إلى بغداد وإذا وصل الخبر فسأكون أنا المسؤول وأقول لمن يعنيهم الأمر إنني أجبرتك والأخ عادل القصاب على الحضور.

في اليوم التالي قضيت سهرة جميلة مع عمو بابا قبل مغادرتي وعودتي إلى بغداد، حيث حبست أنفاسي أياماً عدّة حتى حضور- أبي سامي- الذي أشيعت حول رحلته إلى أربيل أقاويل وشائعات مبالغ فيها جداً ومن بينها تسلّمه مبلغاً كبيراً بملايين الدنانير من المحافظ فرانسوا حريري لكنّ أحداً لم يتحدث أبداً عن حضورنا في بيت المحافظ.

 الصفحة الثالثة.. الهروب إلى الحبانيَّة

 في موسم (1992 – 1993) ونحن نقترب من نهاية الدوري الكروي كانت الأنظار تتجه إلى المباراة الفاصلة والنهائية بين الزوراء والقوة الجوية، حيث يتحدد في ضوء نتيجتها بطل الدوري العراقي.. وقبل المباراة بثلاثة أيام أبلغنا بحضور اجتماع استثنائي نحن مجموعة من المحررين وكان من بينهم إلى جانب كاتب السطور الزملاء سعدون جواد رحمه الله ووليد طبرة وحسام حسن وفيصل صالح وماجد عزيزة رحمه الله ويعقوب ميخائيل وآخرون. وكانت الغاية من الاجتماع كما أبلغنا الراحل عباس الجنابي مدير التحرير في وقتها عقد مؤتمر صحفي في صبيحة يوم المباراة في قاعة فندق الرشيد يحضره مدرب الزوراء الراحل عمو بابا، ومدرب الجوية عادل يوسف ولاعبان من كل فريق، ووقع الاختيار على أحمد راضي- رحمه الله- وليث حسين من الزوراء وراضي شنيشل وسمير كاظم من الجوية. كان الجنابي قد وضع أمامه مجموعة أوراق سُجّلت عليها الأسئلة التي يجب أن توجّه إلى مدربي ولاعبي الفريقين، حيث وُزّعت علينا الأسئلة بالتساوي في نمط غير مألوف من الأسئلة وكلها عبارة عن أسئلة استفزازية ومحرجة بل وحتى جارحة وكان الهدف منها تأزيم الموقف و- كهربة- أجواء المباراة عبر تصعيد إعلامي يعتمد الإثارة الأقرب إلى الجنون.. وبعد أن انفضّ الاجتماع تبادلنا النظرات بأسى وتهكّم وإحباط واضح لكن لم يكن بمقدور أحد في وقتها أن يبدي اعتراضاً أو تحفظاً.. وفي اليوم التالي كنت مرتبطاً بموعد مع الراحل الصديق أحمد راضي، إذ اعتدنا الخروج بعد انتهاء عملي في الجريدة وانتهاء أحمد من الوحدة التدريبية بسيارته ونذهب إلى مقهى يجتمع فيه الرياضيون في منطقة اليرموك وخلال الطريق وفي السيارة تحدثت مع أحمد عن تفاصيل ما جرى في اجتماع الأمس فذهل أحمد راضي باعتباره كابتن فريق الزوراء وقررنا الذهاب معاً إلى بيت عمو بابا والتحق بنا الأخ المرحوم إحسان هادي أمين سر نادي الزوراء.. وفي بيت عمو بابا شرحت ما حصل مرة ثانية برغم إدراكي خطورة الموقف لكني كنت أحاول البحث عن حل- يفركش- ما تم التخطيط له بطريقة لا تجلب لي الضرر أو الأذى فتم الاتفاق وبشكل سري على مغادرة عمو بابا في نفس المساء إلى مدينة الحبانية وإخفاء نفسه هناك ريثما ينجلي الموقف وتتحقق فكرة إحباط المؤتمر الصحفي وفعلاً حضرت سيارة خاصة أقلت عمو بابا إلى الحبانية وعدنا- الثلاثة- أدراجنا إلى المقهى في وقت متأخر.

في اليوم التالي وفي قاعة فندق الرشيد حضر اللاعبون الأربعة وعادل يوسف وسط انتظار الجميع قدوم عمو بابا الذي نعلم نحن الثلاثة فقط أنه لن يحضر وهنا ثارت ثائرة عدنان درجال الذي كان يشغل منصب نائب رئيس اتحاد الكرة كما خرج حسين سعيد- وكان يشغل منصب أمين سر الاتحاد- عن هدوئه وهما مكلفان بإدارة المؤتمر الصحفي الذي لم تكتمل فصوله ولم تتحقق الغاية الأساسية من انعقاده، وظل اختفاء عمو بابا سراً من بين الأسرار العديدة التي أحتفظ بها في مفكرتي.