قرنفل في حدائق العرب!

آراء 2019/07/06
...

عبدالامير المجر
بداية القرن الماضي، كانت البرتغال، قد انهت تقريباً، رحلة استعمارية طويلة، جعلت منها امبراطورية كبيرة، لها مستعمرات وأساطيل، استمرت تجوب بحار العالم منذ القرن الرابع عشر الميلادي وامتدت لقرنين وأكثر، قبل أنْ تأفل تدريجياً وتجد نفسها شبه فقيرة على الطرف الجنوبي الغربي من القارة الأوروبية أو الجزء المتبقي من دولة الاندلس الآفلة، تاركة اسبانياً تستأثر  بالقسم الشرقي الاكبر.
مطلع القرن العشرين، وتحديداً في العام 1908  اغتيل الملك كارلوس الاول وولي عهده، ابنه لويس فيلبي في لشبونة، وكانت هذه بداية لتحول كبير سيحصل في هذه البلاد، التي لم تكن بعيدة عن المد اليساري والليبرالي الذي عصف بالقارة الأوروبية، وقتذاك. اذ اندلعت ثورة شاملة في العام 1910 خلعت الملك خوان الثاني الذي خلف سلفه.
إذن أصبحت البرتغال جمهورية، وبات لها برلمان منتخب، لكن اغلبه من القوى اليسارية الراديكالية، الناقمة على العهد الملكي والكنيسة، فأقدمت على خطوات علمانية متطرفة، اذ لم تكتف بتفكيك شبكة النفوذ الكنسي، ومصادرة ممتلكاتها، وانما حظرت تدريس الدين في المدارس، وصارت تضطهد المتدينين الكاثوليك بشدة، وترافق هذا مع اضطراب في الحياة الادارية والسياسية بفعل التحول الشامل والمفاجئ، اذكتها المشاركة في الحرب العالمية الاولى، فاصبحت طبقات عديدة من الشعب معادية لنظام الحكم، ما اتاح الفرصة للجيش بالتدخل وعاشت البلاد فترة اضطرابات وانقلابات واغتيالات استمرت لغاية العام 1926 حيث قاد الجنرال انطونيو كارمونا، انقلابا عسكريا، واقام حكما استبداديا، ومع اشتداد الازمة الاقتصادية استدعى اكاديميا مرموقا هو انطونيو سالازار ليجعله وزيرا للاقتصاد، وبصلاحيات مطلقة، فنجح هذا في المهمة وحصل على شعبية كبيرة، لاسيما بعد ان وضعت وزارة المستعمرات ضمن صلاحياته.. في العام 1932 اصبح سالازار رئيسا للوزراء واطلق شعار (الدولة الجديدة)، الاّ ان الرجل لم يسمح بوجود احزاب ولا اتحادات عمالية ولا صحافة حرة، فقط ابقى على مظلة شكلية هي (الاتحاد الوطني)، وكانت ذريعته، ان المرحلة المريرة التي عاشتها البرتغال قبل انقلاب العام 1926 كانت بمثابة درس لتجنيب البلاد منزلق الصراعات العقائدية من جديد.. نزاهة سالازار وتسامحه مع الكنيسة واعادة الاعتبار للمتدينين، جعلته في موقع القوي، لانه بذلك مارس تكتيكا سياسيا مطلوبا، اذ حيّد الكثير من الخصوم ليتفرغ للبناء، ولعل وقوفه الى جانب الجنرال الاسباني فرانكو في الحرب الاهلية التي انتصر فيها الاخير، اسهم في تثبيت حكمه، ليستمر حتى العام 1968، وكانت تلك الاعوام على الرغم من كل شيء اعوام تنمية وبناء، انتقلت بالشعب البرتغالي الى مرحلة متقدمة من المدنية والتحضر.
مع هذا لم تصبح الحياة هناك مثالية، وظلت تتوالد الكثير من المشاكل، وابرزها الاقتصادية، نتيجة تداعيات الصراع الدولي في حقبة الحرب الباردة، واستقلال بقية المستعمرات عن البرتغال، لكن شيئا مهما توقفتُ عنده من خلال قراءتي المتواضعة لتاريخ هذا البلد، هو ان (ثورة القرنفل) التي حصلت في العام 1974 وهذا اسمها الذي دخلت به التاريخ، يحيلنا الى مسألة مهمة جداً، هي ان تلك الثورة التي بدأت بحركة من الضباط اطلقوا عليها (حركة القوات المسلحة) وسيطروا يوم 25 نيسان من ذلك العام على مرافق الدولة بسهولة، بعد ان أعلنوا نيتهم إعادة الحياة الديمقراطية وإنهاء حكم المستعمرات التي أحرجت البرتغال أمام العالم، لا سيما حين قمعت بقسوة في بعض البلدان الافريقية، نقول إنَّ تلك (الثورة) التي وزع فيها الشعب القرنفل بين الجنود ليوضع في فوهات البنادق، ويسقط النظام بهذه الطريقة باذخة الجمال، ما كان ليحصل لو لم يكن الشعب قطع شوطاً كبيراً في بناء نفسه من الداخل، أي ان التعليم والتنمية التي رافقت الحقبة الدكتاتورية، أكد أنَّ تلك الحقبة لم تكن فقط لخدمة الحكام ومصالحهم الشخصية، وان حكموا بشرعية ناقصة، لأنهم ببرنامجهم الانمائي  الكبير، وضعوا أسساً صحيحة لبناء الإنسان، حتى وصل الى هذا النضج، بحيث لم تكن هناك فوضى ولا قتل في الشوارع ولا نهب وسلب، بل رغبة حقيقيَّة في تغيير الواقع، مصحوبة بوعي التغيير نفسه.. وبعيداً عن كون الانقلاب (الثورة) حصل بدعم الدول الغربية لقطع الطريق على الشيوعيين أو غيرهم، كما يرى البعض، فإنَّ الذي حصل كان حضارياً بامتياز.. وهذا ما دعانا الى التوقف عنده، ومقارنته بما حصل في البلدان العربية التي استقلت، او هكذا قيل لنا منذ اكثر من نصف قرن، لكن ما شاهدناه من أعمال عنف وخراب ووعي متدنٍ، ظهر جلياً في السنين الأخيرة، يدعونا الى اعادة النظر في فكرة الدكتاتورية والديمقراطية على حد سواء!
ما يؤسف له، انَّ الكثيرين من العلمانيين العرب، يسعون لتأكيد علمانيتهم بمحاربة الدين وتسفيه المتدينين، وكأنَّ هذه هي مهمتهم، يقابله تكفير الكثيرين من المتدينين للعلمانيين، وكأنهم مكلفون من السماء بذلك! وهكذا صنعنا جبهات من وهم، تخندق فيها الانفعاليون من الطرفين، واستمرؤوا هذه الحرب التي أنتجت لنا هذه التشوهات وضياع الوقت والمال.. وقبل هذا كله ضياع الانسان والدول.
حياة الشعوب وتجاربها، يجب ان تكون دروساً، ولعلنا في فوضانا وعنفنا المتمادي، اصبحنا درساً معكوساً، تقرأه الشعوب الأخرى، لتتحصن أكثر، بالمدنية والتسامح والنظم الرشيدة.