يمر لبنان هذه الأيام بمرحلة تسودها الكراهية والتحريض في وجه النازحين السوريين بالدرجة الأولى، وتمتد إلى اللاجئين الفلسطينيين، وهي بقيادة وزير خارجية لبنان، جبران باسيل الذي يقود مجموعة تشبه النازيين الجدد بطروحها وشعاراتها. ولجأ باسيل إلى البلديات ليبيح لشرطتها اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمضايقتهم ودفعهم للمغادره، والضيق من الآخر يسحب نفسه على الشأن الفلسطيني ويجري تناول موضوع اللاجئين بشكل يبدو مستفيداً من الزخم الذي تطرحه “صفقة القرن” والتي تثير المخاوف من إجبار الفلسطينيين على التَوطُّن في الدول التي لجأوا إليها. مع أن الفلسطينيين محرومون من التملك والعمل في كثير من المهن.
وتُقابل الديبلوماسية اللبنانية “صفقة القرن” بالتحدث عن إعادة توزيع اللاجئين الفلسطينيين على دول تستطيع تحمّل أعبائهم. ولا يقف جنون الديموغرافيا عند هذا الحد، فاستفحال هذا الهَوَس يشمل الحد من تملك المسلمين واستئجارهم منازل في بعض المناطق المسيحية بغطاء من أعلى مرجعية، ومُفاخرته بذلك، وبصمت مُريب من حلفاء العهد السياسيين، ومن شركائه الاقتصاديين.
تبدو وحدة الطائفة الدرزية في خطر منبثق منها، أكثر منه يهدّدها من خارج، كما في مرات عدة جبهتها. فقد اعتادت الطائفة الدرزية وقادتها اعتبار التهديد الوافد إليها من
الخارج.
عندما تجبه هذه الحال كانت تقف وراء زعيمها الأقوى، من غير أن يكون الوحيد.غير أن أحداثا متتالية متنقلة في الأشهر الاخيرة أفصحت عن نزاع داخل قادة الطائفة الدرزية لم يعد سراً. امتداداته تصل أيضاً إلى أكثر من فريق كنظام الرئيس الاسد اذ تنقسم على الموقف منه، كما على الموقف من الدور الذي يقتضي أن يضطلع به دروز سوريا في الحرب السورية. تنقسم أيضاً على الموقف من سلاح حزب الله وفائض القوة الذي يتمتع به. ثمة فريق ثالث رئيسي في المعادلة تنقسم من حوله الطائفة، محوره الموقف من رئيس الجمهورية ميشال عون. فالعهد يدعم أرسلان، الذي فاجأ الجميع بنزول أنصاره للمرة الاولى على نحو غير مألوف لقطع طرق رئيسية وإحراق دواليب، ويرسلون للمرة الأولى إشارة ذات مغزى: لدى الدروز شارع آخر غير الشارع
الجنبلاطي.
ليس سراً أن جنبلاط هادن رئيس الجمهورية اكثر من مرة، ومع ذلك اقترع وكتلته لانتخابه رئيساً للجمهورية، مع ذلك، انفجر النزاع الدرزي الدرزي في الشارع، ومن داخل الطائفة. إلا أن أكثر من فريق بات معنياً به، من غير أن يعني ذلك أنه مستفيد منه. ليس هذا النزاع، غير المستجد ولا العفوي طبعاً، سوى واحدة من الحلقات التي تكفلت بها تسوية 2016 على طريق بناء توازنات داخلية جديدة، فريقان رئيسيان، من غير أن يكونا متورطين مباشرة في الاشتباك، يُفصح دوراهما عن أنهما ليسا متفرجين على ما تشهده الطائفة تلك، أولهما حزب الله الذي يشوب علاقته بجنبلاط تردٍ مفتوح على ملفات إقليمية ومحلية وفيرة، من غير أن يفضي إلى صدام لا يريده الطرفان. وثانيهما التيار الوطني الحر الذي يخوض بدوره مواجهة مع جنبلاط، لكن بمضمون غير عقائدي، مرتبط بالتمثيل الانتخابي والانتشار الحزبي. في حساب باسيل إعادة التوازن السياسي إلى جبل لبنان الجنوبي، مع جنبلاط مسيحياً، ومعه درزياً أيضاً، بعدما بات له منذ انتخابات 2018 نائبان في عاليه، أحدهما درزي والآخر ماروني، واثنان آخران مارونيان في الشوف، أصبح له موطئ قدم بخطاب سياسي يريد باسيل أن يشبهه هو، ورئيس الجمهورية حتماً، ولا يشبه في أي حال «خصوصية الجبل» التي غالباً ما تحدث عنها الزعيم الدرزي.
من المبكر القول إن كلام المجلس الأعلى للدفاع حول دور القضاء والأمن في إنهاء ذيول حوادث عاليه قادر على أن يطوي صفحة ما حصل سياسياً وأمنياً. ففي السياسة والأمن والقضاء هناك الكثير ليقال. لكن الأكيد أن للقضاء والأمن دوريهما الأساسيَّين في كشف حقيقة ما حصل وتوفير المعطيات اللازمة للتحقيق، تمهيداً لدور سياسي، ما يعني أن النقاش الحقيقي يفترض أن يتم على مستويين، رئيس الجمهورية ميشال عون، والمستوى الثاني مجلس الوزراء الذي يضم الطرفين المعنيين، إضافة إلى أن من مسؤولية الحكومة وضع يدها على هذا الملف، إلا أن الموقف السياسي لجنبلاط لن ينحصر بمجلس الوزراء. فهو بصدد تهدئة الوضع والاحتكام إلى القضاء وحده، لكن على طريقته. وهو يعي أنه نجح في شد عصب جمهوره، بعدما تحولت معركته السياسية من خلاف مع التيار الوطني الحر، إلى معركة تجمع كل حلفاء سوريا في لبنان في صف واحد ضده. وبقدر ما شدّ جنبلاط عصب جمهوره، فإن الواقع على الأرض يحتاج إلى جهود حثيثة سياسية وأمنية لتطويقه، من دون التقليل من أهمية فتح قناة التواصل والحوار.
فكل من تواصل مع الرئيس سعد الحريري سمع منه كلاماً واضحاً حول مسؤولية الخلافات السياسية عما حصل.
بعد هذه الحادثة يستعد باسيل لزيارة طرابلس. وهو وإن كان مُصراً على استكمال جولاته، إلا أن الأكيد أن ما حصل معه هو الأول بهذا الحجم منذ بداية العهد وتوليه شؤونه الرئاسية، وأي خطوة تراجعية قد يستفيد منها خصومه وتؤثر في مساره. لكن حجم ما حصل هزّه فعلياً. رغم أنه اعتبر هدوء جنبلاط فرصة سانحة للانقضاض عليه ولا سيما أن علاقات الأخير متوترة مع حزب الله وسعد الحريري ومع رئيس الجمهورية والنظام السوري، وأن توجيه ضربة قاضية له قد حان موعدها في عقر داره، معتبرا أن جمهور جنبلاط لم يعد قادراً على ضبط نفسه بعدما وضع السكين على رقبته من قبل حلفاء النظام السوري
بلبنان.
والآن وبعد كل هذه السنوات الطویلة فإن أفعى الفتنة بدأت تطل برأسها بعد استفزازات وتحرشات متواصلة أدت إلى مواجهة مسلحة في منطقة عالیة ولعل ما تجدر الإشارة إلیه هنا هو أن كل صراعات لبنان الداخلیة وكل حروبه الأهلية كانت انعكاساً لتمحورات عربیة وغیر عربیة خارجیة، وعلى غرار ما كان یجري في سنوات منتصف القرن الماضي فصاعداً فإن المتدخلین من الخارج، إن مباشرة أو بامتداداتهم الداخلیة، سوف یتحركون في اللحظة المناسبة وكل لحظاتهم مناسبة وعندها فإن هذا البلد الجمیل سیصبح ومرة أخرى مشكلة عربیة ستضاف إلى المشاكل الأخرى المتفاقمة في معظم دول
المنطقة.