بين الفرنسيَّة والعربيَّة

آراء 2019/07/06
...

حسين الصدر 
- 1 -
في ترجمة الشاعر الفرنسي ماليرب المتوفى سنة 1628 تذكر قصة طريفة:
قيل: حين حضره الموت وكان يعالج سكراته، والى جانبه الراهب يلقنه التعاليم الأخيرة فتح عينيه بعد إغفاءة، فسمع ربّة الدار تكلمه بكلمات بعيدة عن الفصاحة فقال:  “يجدر بكِ يا سيدتي أنْ تراعي قواعد اللغة”
فقال (الراهب):  الأولى أنْ تهتم بآخرتك”
وأجابه الشاعر قائلاً: “إنني لا أستطيع ولو في الموت أنْ أغض النظر عن فصاحة اللغة الفرنسيَّة”
 
- 2 -
والسؤال الآن: إذا كان الحرص على اللغة الفرنسيَّة عند الشاعر الفرنسي (ماليرب) قد بلغ هذا الحدّ، بحيث إنه لم يغفل عن الفصاحة حتى في اللحظات الآخيرة، فهل من نظرية في الحرص على لغة الضاد؟
والجواب:
نعم  
فالتاريخ ينقل عن نحويّ قديم قال:
( أموتُ وفي نفسي شيءٌ من حتى )
ومن المعاصرين كان المرحوم الدكتور مصطفى جواد (ت 1969) من فرسان الدفاع عن العربية، ولم يكن يدخر وسعاً في ميدان تقويم الألسن وفقاً لقواعدها.  ونكتفي الآن بذكر قضيتين له في هذا الباب 
الأولى: إنّه سيق لأداء خدمة الاحتياط بدورة ضباط الاحتياط عام (1939) وكان يُكثر من تنبيه العريف المختص بتدريبهم على الأخطاء اللغويَّة في إيعازاته العسكريَّة..!!
ومعنى هذا: انه لم يكن يُطيق الاستماع الى أية جملة من الكلام متى ما اصطدمت بقواعد اللغة العربية. 
وهذه منقبة لا ينبغي أنْ تُنسى
الثانية:  كان يسير مع صديقه (مير بصري) في شارع الرشيد، فقرأ لوحةً معلّقة على باب دكان مكتوبة بِخَطٍ رديءٍ:
(هنا تنباع البَوال)
- يريد هنا تباع الطوابع –
فدخل د. مصطفى جواد الى المحل وخاطب صاحبه قائلاً:  {هل تبيع الطوابع؟
أجل ولديّ منها أنواعٌ نادرة..
ماذا ترغب أنْ أريك؟
هل تريد (ألبوم)؟
لا يا عزيزي لا أريد شيئاً منها ولكنْ
ولكن لدينا كل ما تريد، إصدارات خاصة لا يوجد مثلها
- ياسيدي أنا لا أريد الشراء، ولكن يحسن بك أنْ تكتب على باب الدكان قطعة بعربية صحيحة:  (هنا تباع الطوابع)
إذا كنت لا تريد الشراء فلماذا تدخل وتعترض على الناس؟
وماذا يهمّك ان نكتب بعربية صحيحة أو غير صحيحة} أعلام الأدب في العراق الجديد
لمير بصري /ط دار الحكمة
ج1 ص 300-301
وكان الدكتور مصطفى جواد يرى أنَّ الاستهتار لا يعني التهاون والاستعانة لأنه في اللغة يعني الغرام والولوع بالشيء 
وعن كلمة (الهاوي) قال: الهاوي: لغةً الساقط، والجراد، والفصيح (الهويّ) كما أنه كان لا يصحح استعمال الصمود للثبات والقرار 
بل كان ينكر أنْ تكون كلمة (الصمود) مصدراً، وإنما المصدر (الصمد) وقد استعمله العرب في حربهم للقصد والسير الى العدو 
 
- 3 -
وينقل عن المرحوم آية الله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء أنه استمع الى أحدهم ولم يكن قد حافظ على قواعد اللغة العربية فقال له:
“أشهد أنك أفصح من نطق بالطيط..!!
ومن هنا داعب أحد الشعراء المعاصرين صديقه في أبيات منها: أين دعاباتُكَ أين الرؤى
وأينَ أينَ الطاطُ والطيطُ؟
 
- 4 -
والملاحظ اليوم أنَّ معظم من يكتبون تعليقاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي يكتبونها بلغةٍ أبعد ما تكون من الفصاحة العربية حتى لكأنهم ليسوا من أبناء اللغة العربية..!!
لا بل إنهم قد لا يفهمون الفصيح بمقدار فهمهم للقبيح، وهذه هي المصيبة
 
- 5 -
كان المرحوم الشيخ حميد الخالصي لا يتكلم إلاّ بلغة عربية فصيحة 
ومن الطرائف أنني شهدتهُ حين قدّمت له الحلوى في بيت أحد علماء الكاظمية قال:
“وَرَدَ الَنْهيُّ”
وكان قد استخار في ان يأكل قطعة الحلوى فجاءه النهي – اي ان استخارته لم تكن جيّدة –
فما كان من أحد الاعلام الحاضرين إلا أنْ قال له مازحاً: “استخر أنْ نضعها بفمك”
بعد أنْ ورد النهي عن أن تضعها بفمك...
وكانت نكتة الموسم.