داليا روئيل والعفويَّة الساحرة

ثقافة 2025/02/19
...

  نزار عبد الستار

على الجانب الآخر من تصوراتنا التنظيريَّة بشأن الأشكال المثاليَّة للرواية يسطعُ الدفق العفويُّ كمكونٍ أساسٍ في صنعة الرواية. هذا بالتحديد ما تبرهنه لنا داليا روئيل في روايتها "زفاف على نهر دجلة".

بعد الحرب العالميَّة الأولى انشغل الجميع بالبحث عن ملتقياتٍ جديدة لتفسير الفن الروائيّ، وكان هذا منطلق النقد الحديث الذي وصلنا معقداً ومتعالياً أكثر من المتوقع، إلا أن الجميع هذه الأيام باتوا أكثر تساهلا مع الدفق السردي العفوي الذي أظهر لنا ثقافاتٍ مؤثرة لا علاقة لها بالأرستقراطيَّة الأوروبيَّة المتكبرة.

تأخذنا داليا روئيل في روايتها "زفاف على نهر دجلة" الصادرة عن دار وتر في البصرة 2022 إلى قرية "بيث قديشا" المسيحيَّة الواقعة على الحدود العراقيَّة السوريَّة. دفقٌ غزيرٌ من الحكايات المتلاحقة التي تتلاحمُ فيها المرويات الشعبيَّة مع اليقين الديني على لسان الراوي العليم المثقف الذي يثبّت التواريخ ويربط بين معتقدات القرية الدينيَّة والأساطير الكونيَّة. داليا روئيل تبدو غير مكتفية بالخصوصيَّة المسيحيَّة، بل تذهبُ الى توظيف التصور الشعبي الذي يحفظُ الحكايات ويؤمنُ بها كواقعٍ لا تطاله الشكوك.

رواية أجيالٍ تحتقنُ بعذابات الشخصيات ولعنات الحياة والعنف الجنسي وصولاً الى الطهارة والنقاء واكتساب الخلاص. تقول لنا داليا إنَّ الأفعال الإنسانيَّة ليست سلوكاً عبثياً أو إجماعاً اجتماعياً، وإنَّما مصائر تختطُّها لنا السماء التي لا تتخلى عن المحزونين وتمدّهم دائماً بتأييدها ليتحول الخُطَاةُ في النهاية إلى قديسين.

أوديت واورشينا وتيريزا يحملن على اكتافهنَّ لعنة متوارثة. عذاب الفقد بسبب الحرب ولوعة الأنوثة في ظلّ الغياب. وجعٌ تقابله نظرة باردة من سكان القرية وحتى مع تدخل الملائكة والرب وكل الكهنة فإنَّ المصير الملعون يبقى سارياً وينحدر إلى النهاية المحتومة. 

الخطيئة تنالُ التوقيرَ بسبب كثرة المصائب وامتحانات الرب وعذابات الحياة. تسردُ داليا قصصَ "بيث قديشا" متعمّقة بالتفاصيل ومفسّرة الطقوس. لا شيءَ يمكن له أنْ يكون مبهماً أو عصياً عن البوح. عالمٌ يتوالدُ على الدرب نفسه، لكنْ من حسن حظ بيث قديشا أنَّ الرب أكثر رحمة من الجميع.

الروايات لا تكتبُ على نمطٍ واحد. هذه الحقيقة كثيراً ما تتعدد تفسيراتها لكنْ بلا جدوى، فنحن ننبهرُ بأعمالٍ ينقصها الانتباه وتغيب عنها الحنكة. "زفاف على نهر دجلة" واحدة من الروايات التي لا نعرف ماذا ينقصها بالضبط. عفويَّة وبريئة وفيها دفقٌ دافئٌ غير متحفّظ. كل الأعمال غير المتكلّفة فيها بصماتُ إلهام. التفاصيل من أكثر عناصر الرواية قوة. إنَّها تخلقُ الإيمان وتورطنا بالمزيد من الدهشة.

العديد من الكتاب أصابهم الملل من تكرار المشاعر، وكان على الروائيين التفكير في حلٍّ ما، لهذه المهمة ولد مارسيل بروست، وفرجينيا وولف، وجيمس جويس، لكنَّ هؤلاء وقعوا في خطيئة الحداثة قبل أنْ يتبين لهم أنَّ لا ملل في المشاعر ما دامت الظروف غير متشابهة، والعذابات غير مرئيَّة.

نلمحُ في "زفاف على نهر دجلة" يقظة متعمدة من الذات الكاتبة. هذا دليلٌ قاطعٌ على تحكّم العفويَّة، فداليا غير متأكدة من أنَّها تكتب رواية. في بيث قديشا كما في كل قرى العالم هناك إنصاتٌ إلى الآخر والانغماس في التفكير به. إنَّها مشاطرة مفروضة على الجميع ما دامت البيوت قليلة والبشر يعرفون بعضهم البعض بشكلٍ موثوق.

أهميَّة هذه الرواية أنَّها جاءت لتغير تصوراتنا عمَّا يكتبُ اليوم في العراق. إنَّها عودة حقيقيَّة للفن من خلال ذاتٍ كاتبة تستوطنها هواجس الروي. الأعمال العظيمة هي تلك التي تشذ عن السائد. الاِتّكال على الروح العميقة هو ما يخلق لنا المزيد من الروائيين، وأرى أنَّ داليا روئيل روائيَّة تستحقُ الانتباه.