د. صادق كاظم
كتب ذات مرة صالح مهدي عماش أحد كبار قادة حزب البعث في الماضي بأن حزبا مبنيا على ثقافة الدماء والموت تتحطم الدنيا ولا يتحطم، في نبوءة تحققت لاحقا عندما شيد البعث نظامه على تلال من الجماجم وأشلاء الضحايا المليونية، التي سقطت طوال مسيرة حكم استمرت 35 عاما. قصة البعث في العراق تختزلها بصماته الاجرامية وتاريخه البشع، وذلك عندما تسلل إلى أروقة السلطة لمرتين بدعم دولي واقليمي مشبوه لتسيد دفة الحكم، وذلك في المرة الأولى التي حصلت في العام 1963 والتي كانت تجربة قصيرة زمنيا، لكنها كانت ثقيلة كالكابوس المرعب على صدور العراقيين، حين قتل الآلاف من المواطنين في تلك الليالي الشاتية في دهاليز قصر النهاية المخيف، الذي تحول إلى رمز اجرامي يفضح بشاعة قادة الحزب، الذين كانوا مجرد سفاحين مولعين بعمليات القتل والموت الجماعي. تطورت هذه التجربة في المرة الثانية مع وصول نفس العصابة إلى السلطة في تموز من العام 1968 عندما تسلموا حكم البلاد من رئيس خذله وخانه حراسه المقربون، عندما فتحوا ابواب القصر لمجموعة صغيرة من البعثيين طردوا الرئيس من القصر ومن ساعدوهم لاحقا ليهيمنوا ويؤسسوا لنظام قروي عشائري هيمن على البلاد في اسوأ مرحلة سياسية من تاريخها. لم يترك هؤلاء المجرمون من قادة الحزب البلاد كي تهدأ ويشرعوا في التأسيس لمرحلة اعمار وثقافة ونهوض من خلال استثمار الودائع المالية الضخمة التي توفرت لهم مع صعود اسعار النفط وقتها، بل اسسوا وشيدوا لدولة بوليسية وقمعية خطيرة اشاعت الخوف في ارجاء العراق، فضلا عن حروب داخلية وقتها مع الكرد كان بالإمكان معالجتها بالتعقل والحكمة. بلغ الموقف ذروة مأساته مع صعود الطاغية صدام إلى السلطة في يوم تموزي قائظ من العام 1979 والذي كان إيذانا بدخول العراق مرحلة الكوارث والخراب التي كانب بدايتها بالحرب مع ايران التي كان بالإمكان تلافيها وتجنبها لو احتكم النظام إلى الحكمة والدبلوماسية والعقلنة لتهدر اموالا وبشرا كان العراق بأمس الحاجة اليها في ذلك الوقت. استغل النظام عوائد النفط والدعم الغربي ليؤسس لدولة وحشية على غرار النموذج الستاليني بنت حول نفسها ستارا حديدا من العزلة وجدرانا صلدة من الخوف والبطش والابادة، حيث شيد النظام السجون السرية الضخمة، التي ابتلعت في بطونها عشرات الالاف من الابرياء، فضلا عن اجهزة امنية قمعية عديدة كانت تتسابق فيما بينها للإيقاع بأكبر عدد ممكن من الضحايا حتى بلغ العدد رقما قياسيا مخيفا. كان سجل النظام اسطوريا في عدد الضحايا والوسائل التي اتبعها في ابادة السكان وتدمير المدن على رؤوس اهلها، بل انه دخل التاريخ عندما استخدم سلاح الغازات الكيمياوية السامة والمحرمة دوليا في قتل سكان مدينة كردية وادعة تغفو بين احضان الوديان والجبال، لتتحول إلى رمز وشاهد على بشاعة واجرام هذا النظام، الذي كان لا يتردد في استخدام اي سلاح حتى لو كان نوويا لقتل المزيد من أبناء البلاد. سقط نظام البعث بعد أن ترك خلفه ارثا دمويا وصفحات سوداء من جرائم وانتهاكات ومجازر ستبقى تجلل صفحاته بالخزي والعار، من المقابر الجماعية في الجنوب والشمال وقصف حلبجة بالسلاح الكيمياوي وتجفيف الاهوار وإبادة سكانها بالسموم إلى شن الحروب العدوانية على دول الجوار وغزوها، من دون مبررات تستوجب ذلك إلى استعداء المجتمع الدولي وفرض عقوبات مشددة على البلاد وشعبها اكلت من جرفها الشيء الكثير إلى حملات العسكرة وتجييش الجيوش الورقية والكارتونية الدعائية إلى المطاردات البوليسية والقمعية لأبناء الشعب واجبارهم على الهجرة إلى المنافي البعيدة واضطهاد المثقفين والأدباء، وإعدام بعضهم واجبار الباقين على العيش والموت قسرا في بلاد الغربة إلى تسلط الاميين والجهلة من اقارب الطاغية على البلاد وشعبها ومنحهم المناصب الوزارية والقيادية الحساسة والمهمة. كل هذه المآسي التي حلت بنا كانت من صنع نظام وحزب ادمن الحروب والقمع ولم يلتفت أو يدرك بأن بلدا عظيما كالعراق لن تنال منه أحزاب الدم وتلول الجماجم، التي تحطمت فعلا في النهاية وانتهت إلى الزوال.