ثنائيَّة القبيلة والدولة في العراق المعاصر

آراء 2025/03/17
...

 أ.د. عبد الواحد مشعل

 

 برز دور القبيلة أو العشيرة السياسي بعد عام 2003، بعد تفكك الدولة الشمولية، وظهرت العشيرة كمرجع اجتماعي أخذ يؤثر في الحياة الثقافية والسياسية للناس في المرحلة المعاصرة، حينما أفرزت الساحة السياسية العراقية قوى متعددة الاتجاهات وتداخلت فيها أهداف سياسية واقتصادية وعقائدية أخذت تؤثر في مسار الحياة الاجتماعية، وما رافق ذلك من صراع عطّل الحياة الاجتماعية والاقتصادية إلى درجة كبيرة، فضلا عن بروز صراع بين القبائل والقاعدة في غرب العراق التي ارادت الاخيرة فرض سيطرتها على الأرض، ما أدى في حينها إلى تشكل الصحوات من العشائر، وما أعقب ذلك من بروز زعامات جديدة تمثل اتجاها قبليا اخذ يظهر كمنافس لقوى سياسية أخرى في المناطق الغربية بهدف السيطرة على سلطتها المحلية، وبهذا المعنى دخلت القبيلة في الحياة السياسية، واخذت تعد العدة لخوض الانتخابات، وبهذا السياق ينبغي التأكيد بان العمل السياسي يحتاج إلى وضع برنامج سياسي واقتصادي متكامل، حتى تنزل بموجبه القبيلة او مجالسها إلى الساحة السياسية، وهذا الامر لا يزال يشغل بال الكثيرين ممن برمون إلى قيام دولة مدنية درأً لمخاطر الولاءات المحلية ونتائجها على مستوى المجتمع ككل، وكذلك الحال في مناطق الفرات والاوسط، وجنوبي العراق، التي باتت فيها القبيلة تشكل اليوم قوة سياسية تريد أن تلعب دورا في الحياة السياسية، إلا أن ذلك ينبغي أن لا يكون عفويا، إنما يتطلب وضع برنامج متكامل، وهذا ما يصعب فهمه في المرحلة الراهنة.

 اذا القينا نظرة سريعة على القبيلة بمعناها البدوي وبدلالات أنثروبولوجية، نجدها كيانا سياسيا واقتصاديا وثقافيا مستقلا قائما بذاته، استطاع أن يحقق اكتفاءه الذاتي، ويختار سلطته السياسية بمحض ارادته، ويقول رأيه بكل شجاعة ودون موانع او خوف، وقد كان ذلك عندما كان الشيخ المختار من قبيلته يتميز بالتواضع وبالكرم وبالشجاعة، وبحسن الاستماع وعدم ممارسة القهر ضدهم، عندئذ كان للممارسة الديمقراطية مكانها المقدر على مستوى علاقاتها الداخلية البسيطة، وكذلك الحال مع الحضريين الخلص فهم عقلانيون، تقوم علاقاتهم في سياقها العام على الحوار في تسيير امورهم في شتى المعاملات، كما أنهم يختارون من يمثلهم من هو أكثر كفاءة وخبرة ودراية بالحياة، كما أن حياتهم الاجتماعية والعائلية، تتسم بالديمقراطية والاحترام المتبادل كحالة تعبر عن الحضرية نفسها كأسلوب حياة، الذي ما يمكن تسميته بممارسة (ديمقراطية) وخلاصة القول على وفق المنطق الانثروبولوجي أن القبائل البدوية الخالصة، وسكان المدينة من الحضريين الخلص هم أقرب إلى السلوك الديمقراطي داخل نطاقهم المحلي، إلا أن المشكلة الكبرى بالنسبة للقبائل أو العشائر المتحولة من النمط البدوي إلى النمط الزراعي، وما رافق ذلك من استقرار وظهور مراكز قوى جديدة مرتبطة بالقدرة المالية والعلاقة مع السلطة، فكلما كان شيخ القبيلة كثير المال، وعلاقته قوية بالسلطة الرسمية كان أكثر تأثيرا وقدرة في محيطه، وهذا ما بات يقلق الكثيرين حينما تستخدم العشيرة طرقها تلك بالانتخابات مما يعرض الديمقراطية ذاتها إلى خطر، لا سيما إذا علمنا أن النظام القبلي بشكل المتحول إلى النمط الزراعي، هو نفسه المضاد (لروح) الديمقراطية الحقيقية.

وفي هذا السياق فإن الدولة بصفتها كيانا سياسيا واجتماعيا وقانونيا، تقوم على أساس التعاقد الاجتماعي، في رسم سياستها على نطاق المجتمع والاضطلاع بإدارته على وفق دستور شامل يتعدى الراغبات الفئوية والعشائرية، إلى مصلحة المجتمع العليا في العدالة، فتكون قدرتها على ممارسة الديمقراطية وإدارة مؤسساتها على وفق الاختيار الشعبي، أمرا مقبولا، إلا أن الاشكالية التي تواجه مثل هكذا كيان هو التداخل بين الثنائيتين (القبلية والدولة)، فكلاهما يؤثر في الاخر عندما يكون القانون لا يأخذ مساره بشكل فعال، ولعل هذه المشكلة عامة في المجتمعات التقليدية، ومنها مجتمعنا، والعامل الحاسم لحل هذه الإشكالية يتمثل في إيجاد نهضة تنموية صناعية، يمكن ان تعقبها تغيرات بنيوية ثقافية فتستبدل المعايير والعادات التقليدية بمعايير وقيم جديدة، يمكن أن تؤدي إلى قيام دولة مدنية تقوم على أساس عقد اجتماعي ينظم الواجبات والحقوق بين الدولة والمجتمع، وهو ما يحتاجه العراق اليوم، لاسيما وهو يمتلك ارثا حضاريا موغلا في القدم، وثروات هائلة تحتاج إلى إدارة بشكل أمثل.