زهير الجبوري
في واحدة من التجارب التي تَشدّ المتلقي في منطقة غاية الدّقة والأهمية وتعطي تساؤلات في التقنية والأداء والرؤية والمضمون، تظهر أمامنا أعمال التشكيلي تحسين الزيدي بوصفها الأنموذج الأكثر انتباهة في جميع الجوانب، ولعل هذا الأمر أعطى مسحة جمالية كبيرة في قراءة التفاصيل قراءة تحليلية قوامها التركيبات الّلونية والاختيارات الموضوعية الملفتة للنظر، إلا أنَّ الاشتغال على مبدأ (تهويم) سطح اللوحة، ربما يحيلنا إلى قراءة أعماله قراءة مختلفة تنطوي على جدل فلسفي في التلقي، فعملية اخفاء ثِيم أشكال اللوحة وملامحها المباشرة قد تعطينا شفرات استفاهمية لقضايا كبيرة، غير أنه اجاب على هذا السؤال الذي طرح كثيرا عليه قائلا (إنها تشتت المتلقي عن جوهر العمل، ويطارد الفطرة الإنسانية التي يراها تشوهت عمدا) ولأن له رؤيا خاصة ومخيلة ناتجة عن (حرفنة) من نوع خاص، فقد نحج بشكل كبير في اعطاء اسلوبه التعبيري المجرد على درجة عالية من التفرد، فالتقنية في الأداء تحتاج إلى اسلوب خاص وهذا ما بانت عليه تجربته..كما أن الاعتماد على قراءة الواقع قراءة بَصريَة ألزمت الفنان مهمة كبيرة في متابعة الأحداث وملاحقة الخبر الصادم في الواقع الذي نعيشه جميعا لنشهد ذلك عبر عمل فني خاص، أو مشروع لمعرض شخصي، وهو احساس طبيعي من فنان يدرك أهمية الواقع وما تتجلى فيه من تفاصيل ملموسة يدركها الجميع، لذا نجد ما قدمه من أعمال كانت جزءا من حياتنا الاجتماعية والسياسية كثورة تشرين التي حضرت في أعماله بوصفها موقفا شعبيا تاريخيا حيث انفعالات الشباب والعجلات (التكتوك) وكذلك العربات الحربية المعطلة وبجانبها يلعب الأطفال ببراءة، وغيرها من الاعمال التي تبين أنَّ التشكيلي تحسين الزيدي يشتغل على المهمل واليومي عبر ملاحقة الاشياء المهشمة والتي تحمل سمة التغريب، وهنا يبرهن الفنان انه يقرأ الأزمة قراءة فنية/ بصرية/ تشكيلية، ما يبين حجم مسؤوليته الثقافية من الأزمة المعاشة، لذا كانت جلّ أعماله (رغم تقنيتها العالية) تعبر عن موقف وعن ابراز هوية المثقف من خلال تراكم ما يدور من أحداث وانفعالات على مدّ السنوات الماضية..
الحسّ الإنساني واضح في أعماله وموضوع البراءة ككينونة خاصة بالأطفال، كانت واضحة جدا وربما هو شعور حسي عال أخذ على عاتقه حالة ممارسة الطفل اللعب بعيدا عن صخب الحروب ونتائجها المهولة، وكأن الذات الناشئة (الطرية) لا تشعر بكوارث الأشياء بقدر ما تشعر بذاتويتها التي فيها طاقة حياتية كبيرة هي أكبر من كل الكوارث التي تحدث في الواقع، وهي قراءة اثنروبولوجية للطفل، فالألوان وطريقة استخدامها والأسلوب الأدائي والموضوعة أعطت كل ما لمسناه وشاهدناه. لم يكن الفنان قارئاً للواقع فحسب، إنما استطاع أن يغور في تفاصيل الأسلوب التجريبي ايضا عبر استخدامه بعض الثيمات التي تعطي دلالات عميقة في معناها كالتفاحة ـ مثلاـ حيث أعطى لها وظائف عديدة بوصفها النموذج الحاضر للحياة، كذلك الأناء المدور الذي في داخله أناس يتصارعون في داخله وإناء آخر يحمله رجلان وآخر فارغ، ايضا الكرسي وما فيه من تحولات دلالية، وغيرها من التفاصيل المعبرة، لكن الملفت للنظر أن التشيكلي الزيدي كانت لديه مهارة استخدام الألوان الحارة والبارزة والمضيئة مع الألوان الباردة مع المسحة (البيضاء) التهويمية ـ كما ذكرنا ـ وهي طريقة تكنيكية تفرد بها غير أنها تحتاج إلى تحليل موضوعي طويل، لأن للغة اللون الأبيض ابعاد تحليلية في استخدامه، بمعنى هل هو لون السلام؟ أم هو لون النهاية كالكفن؟ أم هناك قصديّة أرادها الفنان ليعطي للمتلقي مساحة التفكير والمساهمة معه؟تجربة التشكيلي تحسين الزيدي أخذت منحى الأشياء التأويلية عبر اختياراته المتناظرة في ثنائية الألوان والمضامين، ربما تجعلنا الأخذ بها بما يسمى بـ (الشعرية البصرية) وكانت مهارة الاستخدام تمثل لعبة لذيذة في التكوين وقد أعطى رسالة فحواها أن الفن التشكيلي حاله حال الفنون الأخرى التي تقدم خطابها الجمالي والفكري معا.