الصراع الإنساني وتزييف الحقائق

آراء 2025/03/18
...

 علي لفتة سعيد

لم يكن الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان حديثا أو وليد صراع الحضارات، بل هو ممتد منذ بدء البحث عن مصادر الحياة التي تضمن له الوجود، وقبل التفكير بالمصائر الأخرى كالموت، والإخوة، والحضور، والديمومة، ومفهوم الإنسانية، والتعاون. فقد انبنى الفكر الأول للإنسان على مفهوم الصراع، الذي توجَّه ليكون للأقوى. وهذا ما أدى إلى تتبُّع أثر الآخر من أجل معرفة خططه، بل حتى نواياه، لوضع خطط مضادة تضمن له أن يكون في موقع القوة.

لذا، كانت صناعة الأدوات الممكنة واحدةً من مخرجات الفكر والعقل والمواجهة مع الآخر، سواء كانت هذه الأدوات فكريةً أم ماديةً صناعيةً، كصناعة الأسلحة، والتنمية الاقتصادية التي تؤدّي إلى التمكين، إضافةً إلى تفتيت الآخر مجتمعيًّا واقتصاديًّا لإضعافه بشتى الوسائل، سواء المتاحة أم غير المتاحة، حتى لو كانت عمليات التفتيت غير أخلاقية. ساعد في ذلك وجود عناصر اجتماعيةٍ داخل البلد، تمنح الصراع مفاتيح دينية وقوة غيبية، ليبدو كأنه صراع مبرَّرٌ ومرتبطٌ بقوى أعلى.

وربما يكون أخطر أنواع هذا الصراع هو الصراع الديني، الذي يتّصل ويتداخل مع الصراع العسكري بقوّته الاقتصادية والتسليحية، وهو ما عملت عليه القوى العظمى، ليس في التاريخ البعيد فحسب، بل حتى في التاريخ الحديث. فلطالما كان الصراع الديني حاضرًا، كما في أوروبا بين القوى الدينية، وما قبله في العالم العربي في صراعه مع الروم والفرس، ثم في الحروب الصليبية، التي لم تتّخذ الجانب الديني فقط، بل جعلته موازيًا للصراع العسكري من أجل تحقيق الغلبة، والاستحواذ على المغانم، وفرض القوّة، وجعل التبعية للطرف الخاسر والضعيف أمرًا 

واقعًا.

غالبًا ما يبدأ الصراع بعنوان ديني، ثم يتحوّل إلى صراعٍ عقائدي داخل الدين الواحد، كما حدث في الصراع المسيحي بين الكاثوليك والبروتستانت، الذي كان ظاهره صراعًا من أجل الإيمان وتثبيت أركانه، لكنه في جوهره كان صراعًا سياسيًّا للسيطرة على العقل الإنساني، ومن ثم تمهيدًا للسيطرة السياسية. 

وقد استمر هذا الصراع أكثر من ثلاثة قرون، في حرب تلو الأخرى، أدّت إلى مقتل الآلاف، إن لم يكن الملايين، وتهجيرهم، وإضعاف اقتصادهم، وصولًا إلى استسلام الطرف الخاسر.

لقد كان هذا الصراع محصورًا في جوانبه الدينية، لكنه كان مؤجّجًا من الجانب السياسي، إذ يجري النفخ في رماده، كلما خبت نيرانه أو 

خمدت. 

وكان الدين والتاريخ أهم ركائز هذا الصراع. 

وانتقل هذا الأمر إلى مناطق أخرى، لا سيما منطقتنا العربية، حيث سعت بريطانيا، أيام كونها الدولة التي لا تغيب عنها الشمس، من جهة، والدولة العثمانية، من جهةٍ أخرى، إلى تحويل الصراع السياسي والاقتصادي من أجل السيطرة على الثروات، إلى صراع ديني بين المسيحية 

والإسلام. 

ثم بعد انتهاء الحرب، تحوّل الصراع إلى داخل الدين الواحد، لزرع الفرقة، إذ إن الوحدة تعني صعوبة السيطرة على المجتمعات واستغلال 

ثرواتها.

وقد أدّى هذا التفكير إلى نشوء فكرة زرع دولة داخل جسد البلدان العربية، التي تمثل الإسلام، بحيث تكون البداية سياسيةً، لكنها ترتدي ثوب الدين من أجل التسلّل إلى العقل المجتمعي، وتأجيج الصراع بين طرفين. لذا، سعت الماكينة الصهيونية إلى إيجاد طرقٍ سهلةٍ لتحقيق ذلك، ليس فقط عبر فرض أفكارها ونشرها، بل أيضًا من خلال تزوير تاريخ الطرف الآخر، وزرع أفكارٍ جديدةٍ تتبنّى عقيدة الانتصار بكلّ الطرق. وهكذا، أصبحت هذه الأفكار تنشأ على مفهوم الصراع، حتى وصل الأمر إلى تكفير الآخر دينيًّا بالكامل، وتحويل الصراع من كونه سياسيًّا إلى صراع ديني، ثم إلى صراع عقائدي 

مذهبي.

ولخدمة هذا الهدف، أُنشئت مدارس تنتج الأفكار المغذية للصراع، ونُشرت ككتبٍ بين الناس، بالتزامن مع تعزيز الأفكار السياسية وتنمية القدرات الاقتصادية اليهودية، حتى باتت هي المسيطرة على مقدّرات الدول التي تعيش على استغلال الشعوب، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أصبح رأس المال اليهودي هو المتحكّم الرئيسي، بل إن الصهاينة استغلّوا الصراع العلمي أيضًا للتفوّق على مقدّرات شعوب

 الأرض.

إن الصراع يعد الماكينة التي يقودها البشر من أجل السيطرة على الأرض ومقدرات العيش، لكنه يتحوّل بعد ذلك إلى صراعٍ قائمٍ على المعتقدات الغيبية، لأن العقل البشري أصبح أرضًا خصبةً لتقبُّل هذه الأفكار. وهذا ما نراه جليًّا في الصراع العربي-ا لعربي والإسلامي- الإسلامي، حيث يغذي الطرف الآخر هذه الصراعات بالكثير من الوقائع التاريخية المزيفة أو المحرفة، لإدامة الصراع، الذي سيبقى هو الأقوى حتى يتغيّر العقل، ويدرك أن عمليات القتل الجارية بسبب الأفكار، ليست في الأصل سوى أفكار سياسية نجحت في التغلغل داخل الجسد المنهك بصراعات التاريخ.