رسول الزركَانيّ: تقليد الإبداع والإبداع في التقليد

ثقافة 2025/03/18
...

 رحيم رزاق الجبوري

 

لم يكن يدر بخلد الخطّاط والمُذهِّب والرسّام والباحث د. رسول حمزة الزركَاني أن الحادثة التي تعرض لها في مراحل الدراسة الإعدادية، حينما كان طالبا في ثانوية الثورة، والتي أصابته بحروق وجعلته طريح الفراش لمدة ثمانية أشهر، أن تكون بداية الشرارة التي يلج من خلالها لعالم الخط من أوسع أبوابه. فكان يمتلك خطا سيئا! مما يضطر المدرسون للاستعانة به شخصيا، لغرض تفكيك ورقته الامتحانية وقراءتها لهم، بسبب رداءة خطه، بغية تصحيحها! فجاء عمه، مقترحا عليه أن يتعلم الخط؟ فضحك في سرّه، عطفا على بعده الكبير عن تلك المهارة التي لا يمتلكها مطلقا. لكنه أصر وجلب له كراسة خط وأقلاما. فظل مواظبا على تقليد ما في الكراسة من خطوط متنوعة. وبعد ذلك تحوّل الأمر لشغف وحب مشفوعا بالتدريب والممارسة. ووصل بعد مدة، إلى كل من يشاهد خطه، يطلق عليه صفة الخطاط. فقام بخط هويات الطلاب المدرسية. ثم تطورت الرغبة لديه، وخاصة بعد تعرفه على الخطاط قاسم الخفاجي، الذي عرّفه على الأستاذ جاسم النجفي، الذي انطلق معه بالتعلم الحقيقي لمدة ثلاث سنوات. فدرس بصحبته خط الرقعة والنسخ. بعدها توجه إلى بغداد ودرس لسنتين مع الأستاذ حيدر ربيع، أصول خط النسخ على طريقة هاشم، وكذلك الخط الديواني. ومع الأستاذ نبيل الشريفي لمدة ثلاث سنوات درس أيضا، خط النسخ على طريقة عبد العزيز الرفاعي. فضلا على تعلمه بدايات الأبجدية لخط الثلث، مع تلقيه دروسا في الزخرفة لدى الأستاذ طه البستاني.وفي نهاية التسعينيات بدأ مرحلة اشتغاله على اللوحات بطلب خاص. مع أستاذه جاسم النجفي، فيقوم بتذهيبها وتسويقها للإمارات ولبنان، مما دعاه لافتتاح أكثر من مكتب للخط ببغداد، وجميعها كانت بطابع تجاري. وفي خضم هذا العمل؛ استمر بإقامة الورش والدورات الخاصة في تعليم الخط، وتحسينه للطلاب في فترة العطلة الصيفية. وبرز منهم الخطاط موسى ضياء، الذي نال الجائزة الأولى لسنتين على مستوى العراق بمسابقة أقامتها وزارة الشباب والرياضة. وأكاديميا، تخرج من معهد البناء والانشاءات، وكان الأول على المعهد مما أهله لدخول كلية الهندسة التي تركها في المرحلة الثانية، مفضلا التعيين على شهادة المعهد. وفي عام 2010، دخل كلية الفنون الجميلة في الدراسة المسائية، وكان الأول على دفعته. بعدها أكمل الماجستير، ثم نال الدكتوراه، وحاليا يمارس التدريس في كلية الفنون الجميلة بجامعة بابل. ويدرّس مادة التخطيط والألوان.يقول، الزركَاني: طوال فترة مسيرتي الفنية، وتجاربي مع الخط ابتدأت مع التذهيب واستخدام الأساليب التقليدية بحذر شديد. نظرا لقيمة لوحات الحروف التي أقوم بتذهيبها، والتي تعود لقرون طويلة؛ فترسخ في داخلي هذا الهاجس الكبير بالتعامل مع هذه المقتنيات التاريخية وتطورت شيئا فشيئا. ومما دعانا لتجسيد ذلك والاهتمام بشكل يفوق الوصف في هذا الجانب، حينما التقيت بالأستاذ أوميد كنجلي (كبير الخطاطين بأصفهان) الذي يتميز عن باقي الأساتذة، كون لوحاته الحروفية رائعة جدا، وفي نفس الوقت هو لا يشوه الحرف. بعكس ما شاهدناه وتعلمناه بأن الحرف يجب أن يخرج عن القاعدة ويشوه بالحروفيات؟ فحقيقة استفدت كثيرا من تجربته، وتعلمت منه بعض التقنيات. مع العلم أنه اختبرني من حيث لا أشعر، وأبدى دعمه وحرصه الشديدين على مساعدة المحققين والباحثين أمثالي. وبعد ذلك مزجت بين تجربتي والتقنيات التي تعلمتها فخرجت بأعمال تفوق الوصف والإبهار. مع إجادة الكتابة لخط الرقعة والديواني، والديوان الجلي والكوفي بأكثر من نوع، إضافة إلى الثلث العادي، والثلث الجلي، لكن الأقرب إلى نفسي وقلبي هو خط النسخ».

ويتابع: لعله المضحك المبكي حين عرضت أعمالي ببغداد، نصحوني الفنانون وقالوا لي: (حاول أن تعمل أخطاء بأعمالك؟! لأن كل من يشاهدها يجزم بأنها صنعت بماكنة وليست من صنع يد بشرية!). ويرجع ذلك الشعور لديهم بسبب دقتها وجودتها العاليتين. لكني بقيت على إصراري ببقاء الحرف كما هو، لأنه يمتلك شخصية وسحر عاليين، ويستطيع الخطاط أن يوظفه توظيفا جماليا، كون أن الحروف العربية، تتحلى بالجمال المترسخ فيها، والمكتنز بذاتها، وهذا هو سر تميزها.

ويرى أن جميع الخطاطين يمرون بمرحلتين، طوال مسيرتهم الخطية، الأولى هي تقليد الإبداع، وتشمل التعلم والممارسة، وإتقان وتقليد خطوط الخطاطين الأساتذة، ثم إتقان وضبط التشريح والحروف والنسب. مرورا بالتعرف على تفاصيل وأسرار كل نوع من أنواع الخطوط. أما الثانية هي الإبداع في التقليد. والتي يضع الخطاط بصمته فيها ويخرج بأسلوب خاص به. متضمنة تراكيب ومهارات وكتل متوازنة من حيث السواد والبياض وتخريجات للحروف غير مسبوقة ينفرد بها وحده. لكن الإبداع الحقيقي هو إبداعهم أمام الخطاطين وهو الأصعب، وعليه أن يثبت نفسه ويثبت وجوده ومهاراته.  

ويشير إلى أن ارتباط الخطاطين الروحي بهذا الفن. فهم يزاولونه كأي حرفة، وتعلقهم به غريب. فالخطاط يقضي عمره مواجها لسطح أبيض يريد أن يسوّده وغالبا ما يكتب الخطاطون (سوّده فلان)! والمعلوم أن اللون الأسود هو لون حزن. بمعنى أن الخطاطين هم الفنانون الوحيدون الذين يدخلون السرور على قلب المشاهد باستخدامهم لون الحزن وهذه مفارقة غريبة واقعا. وكذلك صلة الخط العربي بالقرآن الكريم وبالأحاديث النبوية الشريفة والأئمة (ع). وكلها تضفي قدسية. وأيضا تتولد رابطة روحية بين الخطاط وبين ما يكتبه. ولهذا يصف الأستاذ والأكاديمي مجيد صادق زادة وهو المزخرف الأول بأصفهان، وظيفة الخطاط بـ»العظيمة». لأنه ينقل كلام الله من العدم إلى الوجود!   ويوضح أن فن الرسم ابتدأ واقعيا برسم الموجودات كالحيوان والنباتات وهي موجودات مادية. ثم تحول إلى أن وصل إلى مرحلة التجريد. فقام الرسامون بتجريد الأشكال وغاب الشكل تماما فيها وحضرت الانفعالات والأحاسيس والأصوات. أما الخط فبدايته كان تجريديا. فمثلا نرى حيوانا يشبه حرف الحاء، أو طائرا أو دابة أو شجرة يشبهون حرفا من الحروف. فالأصل أن كل الحروف مجردة وجميلة بذاتها. والدليل على ذلك أن الحرف وُظِّفَ في لوحات لفنانين تشكيليين غير عرب وغير مسلمين، ولا هم أصلا خطاطون، بسبب الطاقة الجمالية التي يمتلكها الحرف بحد ذاته، فهو حرف قبل أن يصبح كلمة وقبل أن يكون عبارة. فكل هذه العوامل الضاغطة، أسهمت في سحب الحرف العربي من ساحة الخط إلى ساحة التشكيل.