في ذكرى وفاته الثمانين.. الرصافي في القدس

ثقافة 2025/03/18
...

  د. علي حداد

                                                              

 في اليوم السادس عشر من شهر آذار الذي نحن فيه يكون قد مرت على وفاة (معروف عبد الغني الرصافي 1875ـ 1945) ثمانون سنة. ولهذه المناسبة سعينا هنا أن نستذكر بعضاً من تفصيلات حياته تلك التي ازدحمت بالمواقف الضاجّة والاجتهاد الثقافي المجادل، والتنادي السياسي المشتجر الذي غيّبت كثير من تفصيلاته عن اهتمامات التلقي العام.

(1)

  وبسبب من ذلك لم نورد قبل اسمه وصفه بـ (الشاعر) حسب، فقد كان شخصية متسعة أوجه الحضور، فهو الشاعر والناقد والمعلم والأستاذ والصحفي، والباحث المثير للجدال في أكثر من مجال معرفي. وهو الخطيب صادح الصوت بأفكاره وما تيقنه من قناعات، والسياسي الذي شغل طيلة عقدين من السنوات المسؤوليات (البرلمانية)، سواء أكانت أيام الدولة العثمانية، حين انضوى مع النواب العراقيين في (مجلس المبعوثان) العثماني لدورات عدّة امتدت منذ سنة 1912 وحتى 1919، أم ما كان له بعد قيام النظام الملكي في العراق حين أصبح نائباً في دورات انتخابيّة خمس امتدت منذ العام 1930 ولسنوات عشر لاحقة. وعلى هذا فلن يكون جزافاً القول إنّ شاعرية الرصافي لم تكن سوى واحد من وجوه حضوره الثقافي الفاره والمتعدد، ولعلها جنت على سواها مما هو أعمق منها وأكثر خصباً ونالت منه.       


(2)

 نسعى في هذه الوقفة القرائيَّة أن نستذكر مساحة مبتسرة من زمانية وجود الرصافي الإنساني والثقافي، متمثلة في تلك المدة التي عاشها في مدينة القدس بفلسطين، وما كان له من مواقف ومجادلات وإنجاز شعري، على الرغم من أن إقامته هناك كانت دون السنتين.

يرد في توثيق تلك الإقامة أنه قد تناهى ـ في أوائل العام 1920 ـ  إلى أسماع بعض أصدقاء الرصافي من المثقفين العرب خبر وجوده في دمشق، وقبلها في اسطنبول من دون وظيفة أو مورد عيش، فعرض عليه أحدهم ـ وهو الأستاذ (محمد كرد علي 1876 ـ 1953)، وأصله من (السليمانية) بالعراق، وكان رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق وصاحب مجلة (المقتبس) الصادرة منذ العام 1906ـ أن يذهب إلى القدس، ليعمل مدرساً في دار المعلمين هناك، وبراتب شهري قدره خمسة وثلاثون جنيهاً مصرياً، مع الأكل والمبيت، وهو عرض عجّل الرصافي في تلبيته، فغادر يوم الثلاثاء (2/آذار/1920) إلى القدس وحده، ومن دون أن تكون بحوزته أي وثيقة سفر!؟ 

 وما أن استقر به المقام هناك حتى قدم جهوده المعطاء، سواء في التدريس، أو في نظم الشعر التربوي الذي أصدر منه ـ وخلال تلك السنة ـ مجموعته (الأناشيد المدرسية) التي وضع كل نشيد منها مصحوباً بـ (نوتة موسيقية) يؤدى من خلالها. وهي سبعة عشر (نشيداً) صدرت في كراس خاص تولت نشره (دار المعلمين في القدس)، وقدم لها مدير الدار بقوله: "لقد أصبحت الأناشيد المدرسية من وسائل التربية والتعليم، كما هو مشاهد عند الأمم الراقية. ولما رأينا مدارسنا اليوم في البلاد العربية يعوزها مثل هذه الأناشيد انتهزنا فرصة وجود الأستاذ الرصافي بيننا فانتخبنا بعض ما رأيناه موافقاً للمطلوب من الألحان الغربية والأغاني العربية وطلبنا إلى الرصافي أن ينظم لنا كلاماً ينطبق على تقاطيع الألحان المذكور ليغني بها أبناء مدارسنا، فأجابنا إلى ذلك".

وقد أردفها الرصافي ـ بعد سنوات ـ بمجموعة شعرية أخرى أسماها (تمائم التربية والتعليم)، ليصبح الرصافي بذلك واحداً من رواد شعر الأطفال المبرزين عربياً والمتميزين بوجهة تربوية معلنة وجديرة بالتدارس.

 عاود الرصافي ـ في القدس ـ التواصل مع بعض أصدقائه من الأدباء والمثقفين المقدسيين الذين سبق له تعرفهم في مدن أخرى. كما واصل نظم قصائده ونشرها، وإلقاء بعضها في المحافل والاحتفالات التي كانت تقام في المدينة، نشير من بينها إلى الحفل الذي أقيم يوم 14 كانون الأول 1920، لمناسبة قدوم "هربرت صموئيل" المندوب السامي البريطاني الذي ألقى كلمة قدم فيها رؤية سياسية منصفة عن فلسطين، و"تكلم ـ طبقاً لقول الرصافي ـ بكلام يشفّ عن حسن نيته في سياسة البلاد، ويعد مواعد يجب على القوم أن يقيدوها عليه".. وقد نظم الرصافي قصيدة بهذه المناسبة، جاعلاً عنوانها "إلى هربر صموئيل"، وفيها وثق ما جرى في ذلك الاحتفال الذي كان قد دعا إليه "راغب النشاشيبي" رئيس بلدية القدس حينذاك، حيث ألقى المستشرق اليهودي "إبراهام يهودا" محاضرة عنوانها "ماضي العرب في الأندلس"، أشاد فيها بدور العرب الحضاري، وأعقبه المندوب السامي بالحديث بالاتجاه ذاته، وهو الموقف الذي هزّ مشاعر الرصافي فكتب قصيدته مارة الذكر، مضمناً إياها بعض الإشارات إلى الصلة بين العرب واليهود، الأمر الذي أثار ـ في حينها ـ حفيظة بعض المثقفين الفلسطينيين فكتب أحدهم مقالاً نال فيها من الرصافي، مما استدعاه إلى الرد عليه مبيناً وجهة نظره ومقاصده في القصيدة.

 وكانت قد وقعت في العراق ـ خلال مدة وجود الرصافي في القدس ـ أحداث مهمة، أبرزها ثورة العشرين التي سيبدو أمراً مستغرباً أننا لا نجد للرصافي موقفاً معلناً منها، مثلما لم ترد عنها أية إشارة في شعره. صحيح أنه لم يعايش وقائعها عن قرب كما غيره من شعراء العراق في تلك المرحلة، ولكن ذلك لا يمنع أن أخبارها كانت تصله، فيكون المأمول أنها ستثير عنده تلك الحماسة الوطنية التي عدّت واحدة من العلامات الفارقة في تاريخه الشخصي ومنجزه الشعري، فضلاً عن أن تلك الثورة كانت ضد الإنكليز الذين كثيراً ما أبدى عداءه لهم في مواقفه وشعره.  

وعلى أية حال فقد وجد الرصافي في القدس الفرصة الطيبة للإقامة والالتياذ بطمأنينة مؤقته، تفرغ فيها لمهامه الثقافية الأساس في التربية ونظم الشعر، والمشاركة في الفعاليات الأدبية والفكرية التي كانت يدعى إليها، متبوءاً مواضع التقدير والتكريم من قبل أدباء القدس ومثقفيها. وكأن في ذلك بعض السلوى عما لاقاه قبلها في دمشق من التجاهل والإعراض، حتى ليقول في إحدى قصائده: أصبحت في القدس في أمن وفي دعة  من بعد أن كنت في الشام أعتفد (والاعتفاد ـ في اللغة ـ هو أن يغلق المرء باب بيته على نفسه حتى الموت جوعاً وكمدا).

وسيعاود الرصافي استذكار الأمر في قصيدته (بعد النزوح) التي نظمها في عام 1922، يوم غادر العراق مغاضباً، تلك التي كان مطلعها:

 هي المواطن أدنيها وتقصيني   

  مــثل الحـوادث أبليها فـتبليني 

وفيها يقول:

  قـد كـان في الشام للأيام مـذ زمن  

   ذنب محـته الليالي في فلســطين

 إذ كـان فـيها النشاشيبي يسعفـني  

   وكـنت فـيها خـليلاً للســكـاكـيني

 وكـان فيها ابن جـبر لا يقصـر في 

جـبر انكسار غـريب الدار محـزون                                                                            

وقد أدرج هنا ألقاب بعض من تعرفهم من الشخصيات المقدسية، ممن كانت له صلات طيبة معهم، كـ (إسعاف النشاشيبي وخليل السكاكيني وعادل جبر المقدسي)     

وفي سياق التواصل مع المكان المقدسي ـ فقد نظم الرصافي قصائد عدّة، تتمثل ـ في الغالب عليها ـ الشأن التربوي أو الاجتماعي، الذي اشتغل عليه هناك، مثلما كان بعضها ذا طابع إخواني يوثق من خلاله بعض تواصلاته الإنسانية مع أصدقائه من المثقفين الفلسطينيين، غير أنه لم يفته تضمينها شيئاً من أفكاره السياسية. 

 كانت حصيلة هذه المرحلة من شعر الرصافي ـ عدا أناشيده المدرسية ـ عشر قصائد، لعل أولاهن قصيدته (العلم) التي نظمها لمناسبة تأسيس معهد علمي في القدس، جاعلاً معظم أبياتها في تبجيل العلم والدعوة إليه، من دون أن يفوته التعبير عن مدى تعلقه بأهل القدس ومحبته إياهم.          

وتندرج قصيدته الثانية (دار الأيتام) في مسار الموضوعات الاجتماعية والتربوية التي طالما اشتغل عليها. وتنال قصائده التي حيّا بها عدداً من أصدقائه المقدسيين، أو شكرهم على كرمهم وحفاوتهم به مقداراً بيناً بين ما نظمه، كما في قصائده: (في إيلياء، الحمد للمعلم، تحية سركيس، ذكرى الرجال من حياة الأمم، عفو بعد نفي).

 ويبدو أن الرصافي لم ينقطع في السنوات اللاحقة التي جاءت بعد مغادرته القدس عن التواصل مع المثقفين الفلسطينيين وفعالياتهم الأدبية، فقد أشير في ديوانه إلى أنه أرسل واحدة من قصائده لتلقى في حفلة التأبيني الكبرى للشاعر أحمد شوقي التي أقيمت بمدينة نابلس سنة 1932. 

بقي الرصافي يمارس عمله التربوي بمدينة القدس حتى منتصف 1921، حين قفل عائداً إلى العراق، بعد أن وصلته برقية من حكمت سليمان ـ قال الرصافي إنها بتوجيه من طالب النقيب وزير الخارجية في الحكومة العراقية المؤقتة آنذاك، يدعوه فيها إلى القدوم إلى بغداد لمسائل وطنية مهمة، فغادر القدس نحو مصر على أمل أن يرحل منها ـ عبر البحر ـ إلى الهند، ليعود من هناك إلى بلاده!. 

وفي القاهرة قدّر للرصافي اللقاء بعدد من السياسيين والعسكريين العراقيين، وبعضاً من الساسة الإنكليز، وعلى رأسهم "برسي كوكس" المندوب السامي في العراق، و"المس بيل" سكرتيرة دائرة الانتداب البريطانية. وكانوا يتهيؤون للسفر إلى بغداد، بعد أن عقدوا مؤتمراً في القاهرة ـ بحضور "ونستون تشرشل" وزير المستعمرات آنذاك ـ جرى فيه اختيار الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على عرش العراق. وقد عرضوا على الرصافي أن يرافقهم رحلة العودة، فوافقهم وعاد صحبتهم.