{الدائرة القصيَّة}.. صورة الجسد والهوية

ثقافة 2025/03/18
...

  أ.د. جاسم حسين الخالدي


تمثل قصة "الدائرة القصيَّة" إحدى قصص مجموعة "متنزه الغائبين"، بأسلوب سردي مليء بالتفاصيل النفسية والاجتماعية، مركزة على العوالم الداخلية للشخصيات، وتجسيدها لرؤية ذاتية عميقة لفهم الحياة. تسلط القصة الضوء على التحديات النفسية والاجتماعية التي تواجهها المرأة، والتناقضات اليومية: العمل، الاضطرابات النفسية، الزواج أو الانضمام إلى الدير، ومحاولة إيجاد معنى للحياة من خلال العلاقة مع الكلب.

تتشابك الحياة العملية والنفسية لشخصيتي المرشدة النفسية وويكهام، مع أنَّ الأخيرة أكثر ارتباطًا بالرموز التي تصوّر عزلتها وصراعها مع فقدان المعنى.

تعمل الشخصية الرئيسة مرشدة نفسية في مستشفى لعلاج الفصام، وتعيش وحيدة بعد وفاة خطيبها إيدن بحادث. تجد عزاءها في كلبها برانج، وتتأرجح بين عملها مع مرضاها وصراعها مع الوحدة. تسلط القصة الضوء على تناقضات الحياة: العمل، الاضطرابات النفسية، الزواج، أو الانضمام للدير، ما يجسِّد معاناتها في دائرة مغلقة من الروتين والاغتراب النفسي.

تقول المرشدة: "أخرج صباحًا من شقتي المطلة على البحر، قاطعة مسافة لا بأس بها، لأصل إلى عملي في مستشفى 'هيلفن' لمعالجة أمراض الفصام. أمضيت ثماني عشرة سنة هناك، ولم أفكر بالزواج بعد وفاة خطيبي. أعيش في شقة واحدة مع كلبي المدلل برانج. غالبًا ما أشعر بالضجر عند تلقي رسائل من القس كامنفتيوس، الذي يخيرني بين الانضمام إلى الدير أو الزواج من فيلين، صاحب شركة برانس لمستحضرات التجميل."

تُظهر هذه الفقرة أزمتها، إذ تجد نفسها بين خيارين لا ثالث لهما، كلاهما يمثل انتهاكًا لحريتها: إما أن تكون تابعة للكنيسة أو خاضعة للزواج، لكنها ترفض ذلك قائلة: "ذلك الهاجس يشعرني بأن هناك وصايا مملاة عليّ، لكني لا آبه بذلك أبداً."

اختارت العزلة، فوجدت في علاقتها مع كلبها عزاءً لحياتها القاتلة، فضلاً عن عملها في المستشفى، مما يشعرها بآدميتها. تعبر عن ذلك بقولها: "أعتني بيومي المحمل بالمتاعب، أودع كلبي في حضانة الكلاب أثناء عملي، ثم أصحبه معي بعد انتهاء الدوام. ربما أبدد الوقت في ممارسة الرياضة."

آمنت بحكمة ابتكرتها: "الإنسان خُلق بمفرده، ويموت بمفرده أيضاً." وهكذا، تحيا في دائرة تتكرر بلا تغيير.

تمثل شخصية ويكهام معاناة المرأة من العنف الجسدي والنفسي. تعيش عزلة بعد أن بتر زوجها أحد ثدييها، وتلجأ إلى الرسم كوسيلة لمواجهة العنف والقبح، ساعية لفهم أسباب وحشية زوجها والبحث عن الحقيقة وسط شعور بالاغتراب. تمتلئ القصة برموز تعكس معاناة الشخصيتين، ومن أبرزها:

1. القمر: يتردد ذكره في حديث المرشدة وويكهام، ويمثل الشاهد الصامت على مأساتهما. يظهر في لوحة ويكهام رمزاً للطبيعة العاكسة لوحدتها وصراعها الداخلي. ترسم شخصياتها برؤية فنية ترمز إلى اختلال التوازن بين الرجل القوي والمرأة الضائعة، في إشارة إلى الجريمة التي ارتكبها زوجها.

2. الكلب برانج: يرمز إلى الوفاء والعزلة، ويعكس تعلق المرشدة به حاجتها للرفقة في عالم تملؤه الضغوط النفسية. هذا التناقض واضح، إذ إن من يعمل في الإرشاد النفسي بحاجة إلى علاج نفسي، لكنه يستعيض عن ذلك بعلاقة مع حيوان بدلاً من البشر.

3. المستشفى النفسي: يشكل مرآة لاضطرابات المرشدة، فبينما تعالج مرضاها، تواجه صدى معاناتها الداخلية. يصبح المرض النفسي استعارة لحالتها، إذ تحاول فهم الآخرين من دون أن تتمكن من فهم ذاتها.

4. الكنيسة والدعوات للانضمام إلى الدير: تمثل حلولًا خارجية لصراعها الداخلي. لكنها ترفض ذلك قائلة: "يطلبون مني أن أمسك جسدي وأحافظ عليه، لا أمنحه سلعة واهية للآخر." ترى في هذه الدعوات محاولات للهروب من الوحدة عبر الدين أو الزواج، لكنها لا تلبّي حاجتها الحقيقية.

تعكس القصة صراعًا بين الانعزال والانخراط الاجتماعي. ترفض المرشدة الانضمام للكنيسة، لكنها لا تجد راحة في الاختلاط بالمجتمع. رغم موقفها السلبي من الكنيسة، فإنها تستمع إلى أجراسها، التي ترمز إلى صوت الضمير أو الدعوة للسلام الداخلي، لكنها لا تجد فيهما حلاً لصراعها.

يعكس ذلك حقيقة الإنسان: مهما حاول الابتعاد عن الدين، فإنه يظل يحمل داخله بوصلة أخلاقية توجهه.

يحمل العنوان دلالة رمزية عميقة، تعكس الدائرة المغلقة من الروتين والاغتراب التي تعيش فيها الشخصيتان. تكشف القصة كيف يمكن للإنسان أن يكون محاصرًا داخل نمط متكرر من المعاناة النفسية، وأن التواصل الاجتماعي قد يكون أحيانًا مجرد وسيلة للهرب من هذه الدائرة.

تسهم الرموز المستعملة في بناء قصة تتجاوز السرد التقليدي؛ تجسِّد عمق التجربة الإنسانية وصراعاتها. تؤكد القصة كيف يمكن للفن أن يكون مرآة لصراعات الإنسان الداخلية وتطلعاته نحو فهم ذاته.

هناك ثغرات في السرد، أبرزها أن القصة لم تفصح بوضوح عن طبيعة الظلم الاجتماعي الذي تعرضت له المرشدة النفسية. موقفها السلبي من المجتمع والكنيسة لا يبدو مسوغاً تمامًا، فدعوة الزواج أو الانضمام للدير لا تفسر سبب قطيعتها الكاملة مع المجتمع. كما أن استبدالها العلاقة الاجتماعية برفقة الكلب لا يجد تسويغاً واضحًا داخل القصة.

على الجانب الآخر، رسم السارد شخصية ويكهام بدقة متناهية، حيث صوّرها كياناً متأزماً يعاني من صدمات نفسية وجسدية، أبرزها حادثة الانهيار الجليدي وبتر ثديها. تمكن السارد من رصد محاولتها التغلب على مأساتها عبر الرسم والموسيقى، بوصفهما وسيلة لإعادة صياغة هويتها وتخفيف آلامها.

في مجملها، تقدم القصة رحلة إنسانية لاستكشاف الذات في مواجهة الوحدة والعزلة الاجتماعية. تسهم الرموز مثل الكلب، المستشفى، والأجراس في بناء عالم رمزي يدمج الواقع بالمجاز، ليخلق نصًا غنيًا بالتأملات النفسية والفلسفية.

القصة ليست مجرد حكاية مرشدة نفسية تعيش الوحدة، بل هي تجسيد لصراع إنساني أوسع بين البحث عن الذات والهروب منها. مع اقترابها من الخاتمة، يتعمق صراع المرشدة، حيث تزداد المسافة بينها وبين أي حلول ممكنة. تبقى عالقة في دائرتها المغلقة، غير قادرة على اتخاذ قرار يكسر هذه الحلقة.