وارد بدر السالم
تأخذ الهوايات أشكالا متنوعة كاهتمامات شخصية في ظروف اجتماعية مختلفة. تكشف في أحيانٍ كثيرة عن جملة من العوامل الباطنية التي لا تظهر إلا بمثل هذه الهوايات. وإذا ما كانت العادات وليدة بيئتها، فإن الهواية شكل آخر من تلك العادات.
شخصية جداً ولا تمثل اجتماعيات البيئة ولا ظروفها الجماعية. ومن ثمَّ فالهواية كالموهبة؛ ذاتية؛ خاصّة بفرديتها؛ وإن تشترك بعضها في الاهتمامات ذاتها (كهواية تربية الحَمام) وهي شائعة. أو تفترق عنه كثيراً (كهواية تربية الحشرات) وهي نادرة. أو يأخذ التواصل الشخصي سبيلاً آخر مع ما يمليه وعي الشخصية ذاتها، وما يمثله الفضاء الاجتماعي من قيم أولية تدفع الأفراد الى تبنّي هوايات لها علاقة بالبيئة، مثلما لها علاقة بالتنشئة؛ لكنها في الأحوال كلها أفكار غير ناضجة حتى يكبر الوعي في ظروف أكثر ملائمة.. فتنضج الهواية.
الصحفي الراحل وليد ابراهيم، يتمتع بروح الفكاهة والدعابة. وخفة الظل التي كان عليها منحته حضوراً اجتماعياً لطيفاً بين الأصدقاء، بما كانت تشير اليه روحه من ظرافة وخفة دم ولطافة أخلاقية، ميّزتْه عن غيره من الآخرين، فقد جمع صفات اجتماعية معقولة، لا أظن أن أحداً ممن عاشره لا يتذكرها. ومن ثمَّ فظرافة الشخصية انعكست على هوايته الفردية الغريبة، في استعادة لطفولة قديمة في جمع أقلام الرصاص من العالم، تلك التي رافقتنا في المدارس الابتدائية.
وبالرغم من أن وليد ابراهيم كان صحفياً يعمل في هذا الميدان، وله عمود صحفي أسماه "وليديات" إلا أنه انشغل بهواية غريبة بعض الشيء، وهي جمع أقلام الرصاص من كل مكان، ما كان منها طويلاً أو قصيراً أو غليظاً أو رفيعاً. وهي هواية انفرد بها وتمثّلها في معرض فني مفاهيمي. كان واضحاً فيها جهده الشخصي في تجميع أقلام الرصاص على مدار سنوات طويلة. أنواع غريبة وجميلة ونادرة من تلك الأقلام التي كان يجمعها بنشاط وحماسة استثنائية، ومن مناشئ متعددة، في وقت كان الحصار فيه العراق قاسياً بسنواته الطويلة. لا تدخله ذبابة ولا تخرج منه نملة صغيرة. ومع كل تلك القسوة المفرطة لم ينسَ وليد أن يجمع أقلام الرصاص وبقاياها من الوفود التي كانت تزور العراق في تلك الفترة الحرجة لكسر الحصار. لهذا كانت أقلام الرصاص وبقاياها، التي عرضها في معرضه بأنواعها المختلفة وألوانها المتعددة وأطوالها وأحجامها تشير الى مناشئ فيتنامية وكوبية وصينية ومصرية وتركية وقبرصية وتايلاندية واسترالية وروسية وفنزولية وأمريكية وتايوانية وهندية وبنغالية وأفريقية وأفغانية وبرازيلية وكمبودية وبريطانية وفرنسية. وغيرها من الدول التي تصنع أقلام الرصاص أو تستوردها.
كان يحصل على بعضها بصعوبة بالغة بسبب الحصار الأمريكي والعربي على العراق؛ لهذا ظل يلتجئ الى الوفود الأجنبية والعربية التي كانت تحاول أن تكسر الحصار بالمساعدات الطبية والغذائية كما هو معروف. ولم يعجزه أن يذهب الى السفارات العاملة في العاصمة ويطلب من موظفيها أقلام الرصاص أو ما تبقى حتى من عُقلٍ وبقايا صغيرة منها. ليكون معرضه عالمياً وشاملاً لتلك الأقلام التي يستعملها تلاميذ المدارس الابتدائية في تلك الدول.
كان ذلك المعرض المفاهيمي بلوحات الأقلام المصفوفة على الحيطان، يوحي بأنّ كتابةً ما ستظهر بينها. وأصابع ستمسكها. وأطفالاً سيجرّبون كتابة الحروف والأرقام على أوراقٍ غير موجودة. كانت أقلاماً من عواصم العالم ومدنه وقراه وأريافه وبلداته في سبع قارّات بعيدة. مصطبغة بألوان متعددة. عليها بصمات أعلام دولية. كتابات مختلفة بلغاتٍ شتى. صور أطفال ومدارس وسبورات ورحلات مدرسية، وآفاق صباحية خضراء أو وردية وعصافير تغرد بين الأصابع. وغيوم تحملهــا الأقلام في ترحالها الطويل. إيحاءات لأناشيد وطنية. أقلام لها روائح البحار والسفن والغابات والأشجار والأمطار والجزر والأخشاب المبللة والطائرات والمطارات والسفر والمسافرين.
بانوراما من أقلام الرصاص؛ طويلة كمساطر مدرسية؛ غليظة كسبّابات أشباح خرافية. أخرى بحجم اصبع الابهام كأنها لتلاميذ أقزام في مكان ما من العالم. بعضها متآكل من البَري لم يبق منه موضع أصابع ماسكة. بعضها معضوض كشأن الأطفال الذين "يأكلون" المماحي" الملحقة في نهاياتها، عندما يغريهم طعمها اللذيذ. بعضها يحمل بقايا أتربة وأطيان بعض الدول. بعض الأقلام رشيقة بألوانها الواحدة. وغيرها أجزاء من لوحات، وأخرى أرفع من الأصابع البشرية يلوّنها خشب جاف. كل هذه التشكيلات القلمية زينت ذلك المعرض الاستثنائي الغريب من نوعه، وأكسبته ظرافة مقصودة كان يعيها وليد ابراهيم ويقصدها.. لكن الفكرة لم تصل. ولا يمكن أن تصل وقتها.. كانت أقلاماً مستعملة، مرمية على الطرقات والأرصفة..!
ولأن فترة التسعينيات من القرن الماضي لم تشهد تحولات تكنولوجية في الإلكترونيات بعد. لم يأخذ المعرض صداه المناسب ولم ينتشر. ولم يُكتب عنه إلا في الصحف المحلية البائسة آنذاك، وبذلك ضاعت تلك التجربة القلميَّة مع الكثير مما ضاع من البلاد والعباد. غير أن الفكرة لم تضِعْ، لكنها لم تتكرر بعد، ونظنها غير قابلة للتكرار. لأنها كانت عسيرة على التأويل والمعنى.
نقل وليد تلك العوالم الطفلية المتمثلة بأقلام الرصاص كهواية مسبّبة للسعادة، لارتباطها بالطفولة والأبجدية القرائية الأولى. ومسببة للأمل، كونها تلامس النشأة البكر للحياة عبر الطفولة وأقلامها الملونة. وحينما وضعها في (معرض) كان يعي بشكل أكيد من أن أحداً لا يفهم مقاصده الباطنية في تثوير (فكرة القلم) الذي كان ممنوعاً ضمن الممنوعات الدولية في سنوات الحصار. لكن الفكرة الداخلية كانت أعمق من هذا التأويل، فعندما يكون القلم هو المُعلم الأول للطفولة التي كبرت والتهمتها الحرب، ولم تبقَ غير الأقلام على الدفاتر المتروكة والمنسية، تكون الفكرة أكثر عمقاً ودلالة وتأويلاً. ومعناها عالمي أكثر من كونه محلياً. لذلك فأن الاستعانة بأقلام العالم رسّخ تلك الدلالة بجمالية عالية.