البعث وأيديولوجيا العنف

آراء 2025/03/19
...

 د. عدي حسن مزعل

 في مطلع خمسينيات القرن المنصرم شهدت المنطقة ولادة نموذج جديد من النظم السياسية، وهو النموذج الذي شكلت هويته الأحزاب القومية الصاعدة للسلطة في بعض الدول العربية. وكان حزب البعث أحد الأحزاب الشمولية التي جاءت إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية في دول مثل (العراق وسوريا)، الأمر الذي يلقي بظلاله على عدم شرعية سلطته، خاصة وأن تبنيه العنف منهجاً في الحكم لم يفارقه حتى سقوطه عام 2003، ومن ثم فهو ليس نتاجاً لإرادة الجماهير بوصفها المصدر الرئيس للسلطات، وذلك هو المفهوم الحديث للسلطة الشرعية التي تحظى برضا الناس وقناعتهم.

 لقد فرض البعث سلطته بالقوة والقهر، وصدر نفسه ممثلاً للأمة وتطلعاتها. في حين أن هذه الأمة نادراً ما فكّر في إجراء اختبار حقيقي لقناعاتها في سياساته وحروبه. وحتى عندما قرر معرفة رأيها كانت النتائج محسومة سلفاً، كما هو الحال في الاستفتاء المزور على شخص الرئيس، والذي حاز فيه على نسبة 99.96% عام 1995، وفي استفتاء ثاني عام 2002 فاز بنسبة 100% لولاية رئاسية جديدة، وهو أمر مثير للسخرية وبعيد عن الحقيقة.

 لا يؤمن البعث بالنقد والفكر الحر، ولا بحرية الصحافة والإعلام، ولا بتعددية قوامها حياة سياسية تنشط فيها أحزاب وحركات منافسة، ولا بتداول سلمي للسلطة أو فصل بين السلطات، إنه تجسيد صارخ للفكر الشمولي رؤية وسلوكاً، ونسخة باهتة لا أثر فيها للتجديد والإبداع، نسخة اقتبست أسوأ ما في الأحزاب الشمولية الصاعدة في أوروبا القرن العشرين (الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا والشيوعية في الاتحاد السوفيتي) والمسؤولة عن حروب طاحنة انتهت إلى سقوط بعضها. 

 ومع أن الوعي والمعرفة تقتضي الاعتبار من تجارب الآخرين، إلا أن للبعث مع الوقائع والأحداث رأياً آخر. وكأن قادته ومنظريه من التزمت والكسل ما يمنعهم من إعمال العقل في تجارب الأمم الأخرى! وهي تجارب كانت من الشهرة وقتها ما يستحيل معه إهمالها لصالح المضي بمشروع يستمد روحه مما ثبت فشله، حيث إن الجمع بين القومية والاشتراكية انتهى إلى تكريس التفرقة بدل الوحدة، والتمييز بدل المساواة، وكل ما من شأنه تفخيخ المجتمع من الداخل.

ولعل الوحدة بين مصر وسوريا، والتي نتج عنها ما عرف بـــ (الجمهورية العربية المتحدة)، مثال بارز على التزمت والإصرار على تطبيق المقولات والبرامج رغم تعارضها مع الواقع. والمفارقة أن تجربة الوحدة هذه، رغم فشلها، إذ لم تدم سوى ثلاث سنوات (1958ــــ 1961)، لكن البعث ظل يرفع شعار الوحدة، ويرى في واقع العالم العربي وتعدد أقطاره انحرافاً وتشرذماً يجب علاجه بالوحدة. 

وحتى عندما جاءت حرب عام ١٩٦٧ وهزيمة مصر(معقل المشروع القومي آنذاك) ومعها عدد من الدول العربية أمام الكيان الصهيوني، الهزيمة التي كانت حسب معظم المفكرين العرب بداية كسوف شمس المشروع القومي وتراجعه لصالح صعود التيارات الإسلامية آنذاك، إلا أن البعث لم يتراجع عن شعاراته.... إلى أن جاء غزو الكويت عام 1990 من طرف البعث الصدامي، فكان الخاتمة والضربة القاضية لحلم الوحدة على يد أشهر دعاته المستبدين. ولذلك لا غرابة في أن أكثر من دمر شعار الوحدة ومزق الشعوب، التي تبنت حكوماتها هذا الشعار هي الأحزاب القومية ذاتها.

 تحيلنا هذه التجارب، والفكر الذي يقف خلفها، إلى ظاهرة لم تفارق البعث منذ تأسيسه في سوريا عام 1947، وكأنه كان يتغذى منها ويبرر ديمومة سلطته وشرعيته في ضوئها، واقصد الشعارات الفارغة والكليشيهات الجاهزة، تلك التي كانت أحلاماً طوباوية تحجب الواقع وتشل العقل أكثر منها برامج يمكن تحقيقها. ذلك أن تجميد الفكر عند مقولات وشعارات محددة آل إلى جعل كل عملية تفكير خارجها هي هرطقة وتمرد على الثوابت والفكر القويم، الذي يجب على المريدين أتباعه والتسبيح بحمده.

 ومن هذه الزاوية يبدو البعث رغم حداثته وعلمانيته المعلنة اقرب ما يكون إلى الفكر الأصولي، الذي يقول بعصر ذهبي عاشه المسلمون الأوائل وعلينا التطابق مع ذلك العصر فكراً وسلوكاً. ومن زاوية أخرى يحاكي التجربة الاشتراكية في بعض دول أوروبا، ولا سيما الاتحاد السوفيتي، حيث الحزب هو القائد والأيديولوجيا هي الشريعة التي على الجميع الايمان بها والسير وفق هدائها. 

وذلك شأن كل النظم الشمولية التي ظهرت على مسرح التاريخ. ولاشك أن الاستبداد وممارسة السلطة الأبوية على الجمهور، وراء غياب أي اعتراف بالتقصير والفشل. فعلى الرغم من الكوارث التي حلت بالعراق بفعل سياسات البعث: حروب داخلية وخارجية، مقابر جماعية وتطهير عرقي، امتهان لكرامة الانسان رغم حديث الحزب الدائم عن الكرامة والشموخ والعزة، بث الخوف وتكريس الولاء والإذعان، تشويه قيم وأخلاقيات المجتمع العراقي. لم نسمع أو نقرأ إقرارا صريحا بالذنب والمسؤولية، أو اعتذارا عن حقبة الموت والخراب، بل على العكس، ظل رموز الحزب، زمن حكمه وحتى بعد سقوطه، يطالعوننا بالعقلية والنهج ذاته، ويجترون الشعارات والبيانات المستهلكة، وكأن شيئا لم يكن.

وهكذا أهدر البعث طاقات ومواهب واعدة ظهرت في مجتمعنا ابان ذروة ازدهاره، وخلف لنا من المشكلات والأزمات الكثير، وسرق منا عقودا لو قدر لها أن تمضي دون عوائق لأمكننا القول إنها عصرنا الذهبي. وإذا كان ثمة دين علينا رده للشهداء والمظلومين، والتأسيس لمستقبل تحظى فيه الأجيال بالسلام والأمان، فهو في القوانين الصارمة التي لا تسمح بعودة الرعب والظلام. هذا ما فعلته الشعوب التي عانت من أحزاب عنصرية وشوفينية، مع التأكيد على أن التسامح مع جرائم البعث، لا يعود بالنفع على المجتمع، ولا يؤسس لمرحلة جديدة، بل يفتح شهية الطغاة والمستبدين لتكرار المآسي مادام ليس ثمة رادع وعقاب يوقف دوامة العنف والدم.