أعياد رأس السنة في الحضارات القديمة

ثقافة 2025/03/19
...

 إيڤان أندروز

  ترجمة: مظفر لامي 

 

كان البابليون يحتفلون بولادة العالم من جديد بعد الاعتدال الربيعي ورؤية الهلال في أواخر شهر آذار. وكان يطلق على هذه المناسبة «عيد الأكيتو»، ويذكر أن تاريخ هذه الاحتفالات التي تستمر لأيام عدة، يعود لـ 2000 سنة (ق.م)، وكان لها تداخل وعلاقة وثيقة بالدين والأساطير. ومن المظاهر البارزة في هذا العيد، حمل تماثيل الآلهة في شوارع المدينة، وإقامة طقوس ترمز إلى انتصارهم على قوى الفوضى، وهي تعني بحسب اعتقاد للبابليين أن العالم قد تطهر وأعيد خلقه بشكل رمزي من قبل الآلهة استعدادا منها للعام الجديد وعودة الربيع. 

وكان الجانب الملفت في «عيد الأكيتو» يتعلق بنوع من الإذلال الطقسي الذي كان على الملك البابلي تحمله. إذ يُحضر خلال هذا التقليد الغريب أمام تمثال للإله مردوخ، ويجرد من الرموز الملكية ويجبر على القسم بأنه قاد المدينة بشرف، ثم يقوم الكاهن الأعظم بصفعه وجر أذنيه لحمله على البكاء. وكان ينظر لنزول دموع الملك على أنها علامة على رضا الإله مردوخ وقبوله الرمزي بإعادة تنصيبه. وقد أبدى بعض المؤرخين رأيهم بهذه الإجراءات السياسية واعتبروها مؤشرا على استخدام النظام الملكي لعيد الأكيتو كذريعة لتأكيد سلطة الملك الإلهية على شعبه.في الحضارة الرومانية كان رأس السنة يتوافق في الأصل مع الاعتدال الربيعي، لكن العبث المستمر بالتقويم الشمسي أدى في النهاية إلى أن يكون في التاريخ الأكثر شيوعًا وهو الأول من شهر يناير/ كانون الثاني الذي له أهمية خاصة عند الرومان بسبب اشتقاق اسمه January من إله التغيير والبدايات جانوس Janus الذي يصور بوجهين، بالإضافة لارتباط مفهوم الانتقال من عام لآخر بفكرة وجود رأسين للإله واحد منها ينظر رمزيًا للماضي والآخر ينظر إلى المستقبل. وكانت الاحتفالات تتضمن تقديم القرابين إلى الإله جانوس على أمل الحصول على الحظ السعيد في العام الجديد. وكان من الشائع أن يبدأ الأصدقاء والجيران بتبادل التمنيات الطيبة والهدايا من التين والعسل. ووفقًا للشاعر أوفيد، كان الرومان يفضلون العمل لبعض الوقت في اليوم الأول من السنة بسبب نظرتهم للخمول على أنه فأل سيئ للسنة

 الجديدة.

في الحضارة المصرية ارتبطت الثقافة الشعبية ارتباطًا وثيقًا بنهر النيل، وكان رأس السنة الجديدة لديهم يتوافق مع موعد فيضانه السنوي. وبحسب ما دونه الكاتب الروماني سينسورينوس، تم التنبؤ بموعد العام الجديد عندما أصبح نجم الشعرى- ألمع النجوم في السماء- مرئيًا لأول مرة بعد غياب استمر70 يوما. وتعرف هذه الظاهرة باسم الشروق الحلزوني، وتحدث عادةً في منتصف يوليو قبل الفيضان السنوي لنهر النيل الذي يضمن بقاء الأراضي الزراعية خصبة في السنة التالية. وكانت احتفالات المصريين بالعام الجديد تعرف باسم (ويبت رنبت) أو (افتتاح السنة الجديدة) وكان ينظر لقدوم العام الجديد على أنه وقت للبعث والتجديد، وكان يكرم بالولائم والطقوس الدينية الخاصة. وعلى غرار ما يحدث في عصرنا الراهن، ربما كانت هذه المناسبة ذريعة عند المصريين لتناول الخمر بإسراف، وتظهر الاكتشافات الحديثة في معبد موتMut أن الشهر الأول من العام كان يشهد في عهد حتشبسوت تنظيم مهرجان لتناول الخمر، وقد ارتبط هذا الحفل الكبير بأسطورة سخمت، إلهة الحرب التي خططت لقتل بني البشر، لكن إله الشمس قدم لها الخمر فشربت حتى فقدت الوعي. وتكريماً لخلاص البشرية، كان المصريون يقيمون هذه الاحتفالات التي يقدم فيها الكثير من الخمر.

في الصين يعتبر رأس السنة القمرية أو رأس السنة الصينية الجديدة واحداً من أكثر التقاليد قدما، والاحتفال به لا يزال مستمراً  حتى يومنا هذا. ويعتقد أن نشأته تعود للحقبة التي حكمت فيها أسرة شانغ  قبل أكثر من 3000عام. وكانت بواكير هذا العيد مقتصرة على الاحتفال ببداية موسم الزراعة الربيعية الجديد، لكنه تداخل فيما بعد مع الأساطير والخرافات. ووفقا لإحدى الحكايات الشعبية، كان هناك مخلوق متعطش للدماء يدعى نيان- الكلمة في اللغة الصينية الحالية تعني عام- وكان يهاجم القرى في كل عام جديد. ومن أجل اِخافة هذا الوحش النهم، لجأ القرويون إلى تزيين منازلهم بزخارف حمراء، وحرق عصي الخيزران وإصدار أصوات عالية، وفي نهاية المطاف، تكللت الحيلة بالنجاح، وأصبحت الألوان والأضواء الزاهية التي أخافت نيان جزءًا من هذا الاحتفال. ونظرا لاعتماد رأس السنة القمرية على التقويم القمري الذي يعود تاريخه إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، فإن العطلة تكون عادة في أواخر كانون الثاني أو أوائل شباط، في ثاني قمر جديد بعد الانقلاب الشتوي. وكل عام يرتبط بأحد الحيوانات التي تمثل الأبراج الأثني عشر، وهي الفأر، الثور، النمر، الأرنب، التنين، الثعبان، الحصان، الماعز، القرد، الديك، الكلب والخنزير.

في إيران وبلدان أخرى من الشرق الأوسط وأسيا، لا تزال الاحتفالات تقام في عيد النوروز أو “اليوم الجديد”، رغم أن جذوره تعود إلى العصور القديمة. وفي الغالب يطلق عليه “رأس السنة الفارسية” وهو يصادف الاعتدال الربيعي في شهر آذار وتستمر الاحتفالات به 13 يومًا، والمرجح أنه نشأ في إيران الحديثة كجزء من طقوس الديانة الزرادشتية. ورغم أن ذكره في السجلات الرسمية ظهر في القرن الثاني، إلى أن الرأي السائد عند أغلب المؤرخين أن هذه الاحتفالات تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد ولحكم الامبراطورية الأخمينية. وعلى النقيض من العديد من المهرجانات الفارسية القديمة الأخرى، ظل عيد النوروز عيداً مهماً حتى بعد غزو الإسكندر الأكبر لإيران في عام 333 (ق.م)، وظهور الحكم الإسلامي في القرن السابع الميلادي.