سارق النار جذور التكوين الأدبي

ثقافة 2025/03/19
...

  ريسان الخزعلي

"سارق النار" هنا، لم يكن الأسطوري/ برومثيوس/ ..، وإنما كتاب "سارق النار" من إعداد الراحل محمد شمسي، الشاعر - الكاتب، والصادر عام 1985. وفكرة الكتاب أساساً محاولة حوار صحفي مع الشاعر الرائد عبد الوهاب البياتي.. ، إلا أن الحوار قد فلت من رغبة المحاوِر، إذ إن الشاعر قد استبقه وكأنه في حالة تخاطر ذهني وبدأ متدفقاً، مسترسلا، يجيب ضمناً – من دون أسئلة - عما يدور في رأس شمسي.

(1)

يقول شمسي في استهلال الكتاب: سؤال من هنا وسؤال من هناك وتنتهي اللعبة..، كنتُ تخيّلتهُ لقاءً صحفياً عابراً كمعظم اللقاءات، ولكن ها هو عبد الوهاب البياتي كعادته يفلت من الأسئلة ويمضي في عالمه الخاص، وها أنذا أمضي معهُ عائداً نصف قرن إلى الوراء في رحلة شاقّة، مضنية، طويلة.


(2)

إنَّ استرسال البياتي، كان لا يمنحُ أيّة فسحةِ في المقاطعة أو التداخل حتى النهاية. وهكذا وجد شمسي نفسهُ في حالة إنصات عميقة، وما كان أمامه من سبيل سوى أن يجمع إنصاته في كتابه "سارق النار"، وكأنّه يقول لنا، بأنّهُ قد سرق نار البياتي، كما سرق برومثيوس النار الأولى.


(3)

كان استرسال البياتي منصبّاً على سرد جوانب من حياته: الطفولة، الريف، المدينة، الحي السكني، المدرسة، الجامعة، الأصدقاء، الحبّ الأول، السفر، العمل الدبلوماسي، العزلة، الكتب، لقاء الأدباء من العرب وغير العرب، الزواج، الفقر، البدايات الشعرية، النشر الأوّل، الصداقات الأدبية، استذكار المعلمين والمدرسين، الحرب العالمية الثانية، الفصل الوظيفي، الشعر كيف يكون، .. إلخ.

إنَّ المهم في هذه الإشارات السريعة، هو ما حالف البياتي من حظوظٍ ومصادفات، إذ كان معلموه ومدرسوه وأصدقاؤه من القامات الأدبية والثقافية والفنية المعروفة، ومثل هذه القامات، هي التي أسهمت في تشكيل تكوينه الأدبي الأوّل، وما كان ليكون لو لم يكن مستعدّاً ذاتيّاً لهذا التكوين.

* كان مُدرّسهُ في مادة الرسم الفنان عطا صبري الذي لم يجد في دفتره - خلال تفتيش دفاتر الطلاب – أيَّ رسم، بل وجد قصيدة، وحين تأكّد بأنّهُ كاتبها، راح يتحدّث عنها وعنهُ بإعجاب، وأخبر مدرس اللغة العربية بذلك، والذي قام بدوره بتشجيعه وقرأ القصيدة أمام الطلاب بإعجاب أيضاً.

* كان مُدرّسهُ في مادة الرياضيات القاص ذو النون أيوب. وكان على معرفة ببدايات البياتي الشعرية، وأصبح صديقه لاحقاً، لكن البياتي لا تروق له قصص أيوب على حدِّ قوله.

* كان الروائي فؤاد التكرلي صديقاً لهُ منذُ السنة الأولى الابتدائية، وقد ارتبط مصيرهما الأدبي معاً.

* كان الروائي غائب طعمة فرمان صديقاً له منذُ الصف الأول المتوسط، وفرمان بدأ شاعراً يكتب القصائد العمودية الطويلة التي تصل إلى المئة بيت، وكانا يتباريان في طول القصيدة كما يقول البياتي، وبعد سنوات اكتشف غائب أن موهبته تكمن في كتابة القصة القصيرة ثمَّ الرواية فانصرف قبل نهاية الخمسينات عن الشعر على حدِّ قول البياتي أيضاً.

* في دار المعلمين العالية، تعرّف على الشاعر بدر شاكر السياب الذي سبقهُ بعام واحد، وكذلك تعرّف على الشاعر شاذل طاقة والشاعرة لميعة عباس عمارة وقد كانا معه في المرحلة نفسها، والشاعر سليمان العيسى الذي كان في المرحلة المنتهية.

* في بداية الأربعينيات، تعرّف على الشاعر حسين مردان في مدينة بعقوبة، وطلب منه مغادرتها إلى بغداد، ووصل مردان إلى بغداد وأصبح صديقا- حتى موته - للبياتي، إذ وجد فيه طاقة شعرية مغايرة للسائد آنذاك.

* تعرّف على الأدباء والفنانين: عبد الملك نوري، وبلند الحيدري وشقيقه صفاء الحيدري، أكرم الوتري، جواد سليم، نزار سليم، اسماعيل الشيخلي.

إنَّ هكذا علاقات ومصادفات، ومنذ التفتّحات الأولى وما تبعها لاحقاً، لا بدَّ أن تترك أثرها على التكوين الأدبي، بعد أن كانت الجذر الأعمق في هذا التكوين.