من مكاسب دراسة الفلسفة في مدرسة النجف

ثقافة 2025/03/19
...

  د. عبد الجبار الرفاعي

حاولت أعمال محمد حسين الطباطبائي، ومرتضى المطهري، ومحمد باقر الصدر أن تنقد الفلسفةَ المادية، وناقشت المذهبَ التجريبي، وحاولت أن تتأمل ركائزَ تلك الفلسفة، وأوضحت ما ينطوي عليه المذهب التجريبي من تهافتٍ في ضوء المنطق الأرسطي. يتلخص النقد في أن المذهب التجريبي يتخطي حدودَ التجربة إلى (ماوراء الطبيعة)، وحدود التجربة لا تتجاوز عالمَ الطبيعة، لذلك لا يصح أن يحكم بالنفي على عالم (ماوراء الطبيعة)، العالم الذي لا تناله الحواس ولا تستخدم فيه التجربة وأدواتها.

كذلك حاولت هذه الأعمال الكشفَ عن لونٍ آخر من التهافت الذي وقع فيه المذهبُ التجريبي، عندما أنكر (هذا المذهب) أيَّ مصدر للمعرفة التصديقية خارج إطار التجربة، غافلًا عن أن هذا الإنكارَ نفسه هو قضية تصديقية لا تتوكأ على تجربة. التجربة لا تؤكد قيمةَ ذاتها، وبذلك يسلّم هو بتصديقات عقلية خارج حدود التجربة، فيقع في حبال ما نفاه في إنكاره، ويضحي هذا الإنكارُ برهانًا على أنه لا بدّ أن يقبل بمعارف أولية قبلية لا تنالها التجربةُ. 

بقي أن نشير إلى أن الدرسَ الفلسفي في مدرسة النجف، أسهم في بناء فلسفة، مثّلتها مدرسةُ الحكمة المتعالية التي كانت توليفًا اختلطتْ فيه عناصرُ ومقولاتُ وأدوات فلسفتَي المشاء والإشراق، فضلًا عن العرفان، وعلم الكلام، والتي شيَّد أركانَها محمد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بملا صدرا وصدر المتألهين. ولم تُدرَّس فلسفةُ ملا صدرا في معظم الجامعات العربية المهتمة بدراسة فلسفة المسلمين، ولا نعرف لتدريسها أساتذةً أكفاء متخصّصين في أروقة هذه الجامعات.

ويمكن أن نسجل للدرس الفلسفي في مدرسة النجف إنجازًا آخر، فهو برغم شحة وضمور الإنتاج الفلسفي عمومًا في عالم الإسلام في العصر الحديث ومناهضة التيارات السلفية الشيعية والسنية للفلسفة، فإن التأليف لم ينقطع في فضاء الدرس الفلسفي في مدرسة النجف تمامًا، إذ نلتقي في هذه المدة بكتابين تبلور عنهما هذا الدرسُ في مرحلته الحاضرة:

أولها: كتاب (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي) لمحمد حسين الطباطبائي، بإثرائه بتعليقات وشروح توضيحية موسعة لتلميذه مرتضى المطهري. هذا الكتاب عبارة عن دورة فلسفية، تتضمن بحوثًا تواكب الفلسفةَ في الإسلام في مسيرة ألف عام، مع استيعابٍ لشيءٍ من الآراء والنظريات الفلسفية الحديثة أيضاً، وبيان مجموعة أُسُس فلسفية، توضح ما يصطلح عليه الطباطبائي "الفلسفة الالهية"، وكيف تجلى فيها إبداعُ حكماء الإسلام. في "أصول الفلسفة" استأثرت "نظرية المعرفة" بمساحة واسعة من مباحث الكتاب، فبعد أن فرغ الطباطبائي في المقالتين الأولى والثانية من بيانِ "معنى الفلسفةِ وحدودها، والعلاقةِ بينها وبين العلوم الطبيعية والرياضية" دشّن بحثَه بنظرية المعرفة، وأَوْلاها أهمّيةً متميّزة حين جعلها تتصدّر مسائلَ الفلسفة الأخرى، وعمل على ترتيب البحث فيها على وفق ثلاثة محاور متسلسلة منطقيًّا، تبدأ بـ "قيمة المعرفة" يليها "مصدرُ المعرفة" وتنتهي بـ "حدود المعرفة". مضافًا إلى تقديم البحث في "نظرية المعرفة" وما يتّصل بها من مسائل "الإدراكات" على غيرها، فإنّها احتلت مساحةً واسعة من الكتاب، إذ انبسطت على معظم صفحات الجزء الأوّل وصفحات الجزء الثاني بتمامها، فيما اشتملت الأجزاء الثلاثة الباقية على المسائل الأخرى. وبذلك يكون "أصول الفلسفة" أوَّلَ مؤلَّف في مدرسة النحف يعالج مسألةَ المعرفة بهذه الكيفية، ويوليها هذا القدرَ من التحليل والدراسة.                         

الثاني: هو كتاب (الأُسس المنطقية للاستقراء) لمحمد باقر الصدر، وقد تمثّل إنجازُه الأساس في محاولة صياغة مذهبٍ جديد، في تفسير كيفية نموّ المعرفة البشرية وتوالدها، عبّر عن اتجاه آخر في تفسير المعرفة، غير ما كان معروفًا بين المدرستين التجريبية والعقلية، وتُعدّ ولادةُ هذا المذهب، الذي أسماه الصدر (المذهب الذاتي للمعرفة) إنجازًا رائدًا في المنطق.

 وينبغي التنويهُ برؤيةٍ رحبة لمرتضى المطهري إزاء طريقة تعليم الفلسفة المادية، فيوم كان رئيسًا لقسم الفلسفة بكلية الإلهيات والمعارف الإسلامية في طهران أوصى مجلسَ إدارة الكلية بتأسيس كرسي لتدريس الفكر الماركسي، يقول المطهري: "لقد كتبت قبل أعوام كتابًا إلى مجلس إدارة هذه الكلية ونبهت فيه إلى أن كلية الالهيات هي الكلية الوحيدة المؤهلة لتخصيص كرسي لتدريس الماركسية، شريطة ألا يقوم بذلك أستاذ مسلم، وإنما أستاذ يتفهم الماركسية حقًّا، ويؤمن بها حقًّا، ولا يؤمن بالله حقًّا. لا يخطر ببال أحد أنه لا يجوز تدريس الماركسية في كلية الإلهيات، بل بالعكس يجب أن تدرس، ولكن على يد أستاذ مؤمن بها وملتزم بها، ثم يأتي دورُنا لنقول ما لدينا، ونعرض منطقنا، ولا يُرغم أحد على قبول هذا المنطق". 

وتميز الطباطبائي عن معظم علماء الدين بنزعتِه الروحية الأخلاقية الإنسانية الرقيقة، وإدراكِه بذكاءٍ فطري البعدَ اللطيف الرحيم في الدين. كذلك كان يتمتع بحريةٍ عقلية مضيئة في التفكير، ويحرص على الاطلاع على الأديان الأخرى، ويتعاطى مع ميراثها باحترام وتبجيل، ويتذوق المضمونَ الرمزي الروحي لنصوصها. كما اهتم بالدراسات المقارنة بين الأديان، فكان الطباطبائي يشرح لحسين نصر وداريوش شايغان نصوصَ الأديان وكتبَها المقدّسة، مثل "الأناجيل"، و"الأوبانيشاد". يقول داريوش شايغان: (العرفان أول ما يسترعي اهتمامي. أجد انشدادًا قويا إلى العرفان، أنا من عشاق المذهب الطاوي، وأهوى "جوانغ تزو" للغاية. انخرطت في حلقة دراسية لدراسته بأستاذية الطباطبائي، كان يُبدي رغبة أكيدة في الاطلاع على كتاباتهم، ولأنها لم تكن مترجمة، عكفت أنا وحسين نصر على ترجمتها. كان يفسر "شانكارا" كأنه أستاذ بالضبط، ويتركنا في حيرة من الأمر، فمثلًا في أحد الأوبانشادات عبارة تنطوي على مفارقة: "الذي يفهم لا يفهم، والذي لا يفهم يفهم". فسّر الطباطبائي هذه العبارة، وكشف ما هو محجوب فيها، وحلل مضمونها، بنحو أدهشني. بعد ذلك ترجمتُ أنا وحسين نصر كتيبًا صغيرًا من تأليف لاوتسه، اسمه "داوديجينغ" كله مفارقات. نقلناه من النص الإنجليزي إلى الفارسية. حينما قرأه الطباطبائي، قال: "هذه أهم رسالة قرأتها في حياتي". وصار من عشاق "داوديجينغ").