لماذا الرواية؟

ثقافة 2025/03/19
...

  عبد علي حسن


يرتهن تصاعد الخط البياني للأجناس الأدبية وأنواعها في هيمنتها على فواعل التلقي إلى نسقين أساسيين، الأول/ قابلية الجنس الأدبي على الاستجابة للسياقات الاجتماعية والثقافية السائدة والماثلة في حركية الواقع  والتعبير عنها عبر ٱليات وتقنيات متجاوزة الأنماط السائدة والمستهلكة، الثاني/ قدرة الكتاب على فحص العلائق القديمة بين النص وحركية الواقع الجديد ومقاربة المشكلات الأدبية والفنية وبما يضمن تقديم نصوص مغايرة تمتلك القابلية على التعبير عن مكنونات الواقع والمتلقي الخاضعة لصيرورة الواقع الجديد.

 وتعدّ الرواية واحدة من الفنون الأدبية المهمة التي تمكنت من إيجاد موقع متقدم لها بين الفنون الأدبية الأخرى منذ ظهورها في القرن السابع عشر وتطورها حتى بلوغها القرن التاسع عشر لتهيمن على المشهد الثقافي ممثلة بالرواية الكلاسيكية التي ارتبطت بشكل وثيق بتحول المجتمع الغربي إلى مرحلة الحداثة الذي استمر حتى ظهور رواية ما بعد الحداثة التي كانت استجابة للمتغير الاجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية، وقد مثلّت الرواية الفرنسية الحديثة وروادها "ناتالي ساروت وٱلان روب غرييه وكلود سيمون وميشيل بوتور" رواية مابعد الحداثة أفضل تمثيل، فقد جسدت هذه الحركة الإبتكار في الاسلوب والموضوع، وركزت على التجربة الفردية والتفاصيل الدقيقة للحياة اليومية، فظهرت الرواية (الشيئية) والرواية ذات الإنعكاس الذاتي (الميتافكشن)، فكانت حركة الرواية الفرنسية الجديدة الحد الفاصل بين الرواية الكلاسيكية والرواية مابعد الكلاسيكية. وامتد تأثير موجهات هذه الرواية على الرواية العالمية حتى يومنا هذا، ولئن كانت الرواية الكلاسيكية قد هيمنت على القرن التاسع عشر ارتباطاً بالمتحول الاجتماسياسي الاوروبي، فإن هذا الدور قد تم استعادته منذ منتصف القرن الماضي وباتت الرواية كفن ادبي تمارس حضورا مهيمناً على ذائقة المتلقي، سيما وأنها قد اكتسبت بعدا معرفياً، فظهرت الرواية (المفكّرة) لتفتح حوارا جدلياً مع المتلقي حول مسائل الوجود والهوية وسواها من القضايا التي تمسّ حياة الفرد الذاتية والموضوعية.

 ومنذ مفتتح الألفية الثالثة فإن الرواية في المجتمع العربي قد حازت على دور المهيمنة بين الأجناس والأشكال الأدبية الأخرى، وسحبت البساط من تحت فن الشعر الذي هيمن على الذائقة العربية منذ عصر ما قبل الإسلام حتى عُدّ ديوان العرب ليترك هذه المنزلة إلى الرواية لتكون المهيمنة الرئيسية على مستوى اهتمام الكتاب وذائقة المتلقي العربي. ولعل وراء ذلك أسباب عديدة وفي مقدمتها التحول البنيوي في المجتمع العربي اثر تقويض الديكتاتوريات التي بسطت نفوذها على مجمل الحراك الاجتماعي والسياسي لعقود طويلة، إذ رافق هذا التفويض رفع اليد عن المطبوعات وتوفر أجواء من الحرية الثقافية التي أسهمت في ظهور ماكان مسكوتا عنه في عقود سابقة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد وانما لخضوع البنية الاجتماسياسية في البلدان العربية التي شهدت تحولا جذريا في حراك واقعها إلى إحداث ووقائع دراماتيكية لم يجد الكتاب وسيلة للتعبير عنها إلّا في فن الرواية نظرا لما تتمتع فيه فواعل بنائها الداخلي ومواصفاتها من إمكانية تغطية مساحة تعبيرية اكبر من بقية الأشكال التعبيرية الأخرى، حتى شهدنا ظاهرة تحول عدد من الشعراء وكتاب القصة القصيرة إلى كتابة الرواية لأنهم وجدوا فيها الشكل العصري المناسب للإحاطة بمجريات الصراع القائم في هذه المجتمعات، ولكن هذا الدور المهيمن للرواية لم يطرد الأشكال التعبيرية الأخرى من المشهد الثقافي بل ظلّت تمارس دورها التعبيري كل حسب المساحة التي يوفرها كل شكل، إذ يمكن ملاحظة هذا الدور للرواية عبر مراجعة بسيطة لما صدر من روايات تجاوزت الألف رواية خلال العقدين المنصرمين من الألفية الثالثة، فما تسمح به الرواية من تطوير الشخصيات والأحداث بشكل معمّق يمكّن المتلقي من التعاطف مع الشخصيات ويعيش تجاربهم ومشاعرهم، عبر تغطية الرواية لمجموعة من المواضيع الواسعه التي أفرزتها حركية الواقع الجديد، من تجارب الحب والصراع والتاريخ والسياسة، مما يجعلها منطقة جذب لاهتمام المتلقين باختلاف مرجعياتهم، ومما زاد من أهمية الرواية المعاصرة هو استثمار الكتاب للأساليب السردية الحديثة كتعدد الأصوات أو تقنيات السرد غير الخطية وخرق التتابع الكرونولوجي مما يضيف عمقاً وتحديداً للعمل الروائي، وإذ اتسمت الرواية الجديدة باعتماد الفكرة التي تدفع المتلقي للتفكير والتأمل في قضايا الحياة والوجود مما يعزز من تجربته ومرجعيته الأدبية، فضلاً عن ما تعكسه  الرواية من ثقافات وتجارب إنسانية متنوعة تسهل التواصل بين القراء باختلاف خلفياتهم وهوياتهم المتنوعة، واجمالاً فإن الرواية تجمع بين الأدب والفن والواقع، مما يجعلها شكلاً أثيرا لدى القراء، على أن نجاح رواية معينة لدى القرّاء يعتمد على عدّة عوامل رئيسية منها توفر الحبكة المثيرة والمشوّقة التي تجذب انتباه المتلقي منذ البداية وحتى النهاية، والاهتمام ببناء الشخصيات القابلة للتعاطف والتي تتمتع بالعمق والواقعية التي تنمي الشعور بارتباط المتلقي مع هذه الشخصيات، ولاشك في أن الٱسلوب الكتابي الفريد والمتميز يمكن أن يجعل الرواية أكثر جذباً.

ولعل في ظهور العولمة كنظام اقتصادي جديد ومحاولة تخليق نظام ثقافي جديد أيضاً منذ تسعينيات القرن الماضي قد أسهم في ظهور ما يمكن أن نطلق عليه بـ (الرواية المفكّرة) التي حازت على سمات معرفية لم تجعل الحكاية لذاتها هدفاً مركزياً، بل تحولت تلك الحكاية التي قامت عليها الرواية الكلاسيكية إلى ذريعة يتم عبرها تخليق (وجهة النظر) حسب هنري جيمس، كما وظهرت مجموعة من السرديات من خارج الأنماط السردية القارّة في المشهد الثقافي، فقد كان علم السرد فاتحة لعالم سردي جديد فسح المجال أمام السيرة بشقيها الذاتي والموضوعي والمذكرات واليوميات وسرديات الأمكنة لتشكل نشاطاً سردياً يتوافر على العديد من مقومات وعوامل السرد الذي يستأثر باهتمام ومتابعة المتلقي الذي يطمح للإحاطة بمجريات الواقع الجديد فكرياً وجمالياً، فمارست رواية مابعد الكلاسيكية العالمية وبشكل خاص في مجتمعات جغرافية مابعد الحداثة تأثيراً كبيراً على مجمل توجهات الرواية في مجتمعات خارج جغرافية مابعد الحداثة التي كانت ولاتزال تمثل الحدود السائلة على مستوى تداخل الأجناس والذهاب بعيدا إلى جوهر ظواهر الواقع، فكان للتخييل موقعاً مائزاً في بنائية الرواية، ويمكننا ملاحظة كل ذلك في موجهات الرواية العربية في الألفية الثالثة، فقد شهد العقدين الاول والثاني من هذه الألفية الجديدة نزوعاً ارتبط بشكل كبير بفواعل التحولات البنيوية في المجتمع العربي اثر تشكّل ماسمي بالربيع العربي الذي انطلق من محاولات تجاوز النظم الثقافية التي اتسمت بالديكتاتورية القامعة لكل ما هو مضاد ايديولوجياً ومتقاطعاً مع موجهات تلك النظم، وتحيناً لهذه الفرصة الديمقراطية اثر رفع سلطة المؤسسة الثقافية فقد ظهرت العديد من دور النشر واتجه الروائيون العرب والعراقيين إلى إصدار المئات، بل الٱلاف من الروايات خلال العقدين المنصرمين، إلى درجة عدم توفر إمكانية ملاحقة المستوى الفكري والتقني من قبل الجهد النقدي لكثرة ماصدر ويصدر من روايات غثها وسمينها، إلّا أنه بالإمكان رصد الموجهات الجديدة لهذا الجهد الروائي الكبير والكثير، كما يمكننا من ملاحظة بعض الظواهر الإيجابية المصاحبة لهذا الجهد من قبيل التوجه إلى تأريخ الأمة واختيار الأحداث التأريخية التي شكّلت الذاكرة الجمعية المتواترة مايناسب الحراك الإجتماعي الجديد لمعالجة المشاكل الناشئة الجديدة المحايثة للهمّ الفردي والجمعي، فظهر عدد من الروايات التأريخية التي لامست الذائقة الفكرية والجمالية للمتلقي، كما صار الاهتمام بالغرائبي والعجائبي أسلوباً لمعاينة الواقع الموازي للواقع السطحي عبر تقنية التخييل وصولاً إلى تبني فكرة أو وجهة نظر لما يجري في الواقع على مستوى البنية الداخلية غير المنظورة لظواهر الواقع، وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر بهذا الاتجاه رواية (فرنكشتاين في بغداد) للروائي العراقي احمد السعداوي ورواية (عزازيل) للروائي المصري يوسف زيدان ورواية (سفر الاختفاء) للروائية الفلسطينية ابتسام عازم التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية للعام الحالي 2025 وسواها من الروايات التي وجدت في المتخيل العجائبي أسلوبا في طرح وجهة النظر، إلّا أنه من الممكن حصر المئات من الروايات التي توقف جهدها الفني والفكري عند حدود ملامسة الواقع الظاهري في بناء الحكاية التي اتخذت وضعاً مركزياً لا يبرر محاولة هؤلاء الروائيين للاقتراب من مشاكل الواقع ومتبنيات المتلقي، إذ لم تكن هذه الروايات سوى اكتشاف ما هو مكتشف ومنظور للمتلقي ومعايشته له. وقد فات هؤلاء الروائيين أن الرواية هي فن أدبي وليس وثيقة اجتماعية أو تأريخية.

  لقد كانت تلك الظواهر الثلاث المشار إليها ٱنفاً سبباً معقولاً في احتلال أولويات اهتمام المتلقي الذي يعكس مشاكل الواقع الموضوعي، وبذلك فقد تقدمت الرواية بكل إمكانياتها البنائية والفكرية لتكون ديوان العرب.