الحوار الأدبي حضارة وموقف.. وقيم معرفيَّة متبادلة

ثقافة 2025/03/20
...

  د. سلمان كاصد 

من الصعب جداً أن تقيم حواراً غير متكافئ معرفياً، حينما يؤطر هذا الحوار ضمن فضاء ملتبس، وحين تتمعن جيداً باحثاً عن أسباب الالتباس، تجده مشيداً على مفهوم رد الجميل والمكافأة المتبادلة في مجتمعنا الثقافي، الذي بات مناخاً تشم منه روائح تنم عن اللا موضوعية، والإنشائية وإطلاق الأحكام الشخصية، والنعوت التي باستطاعة أصحاب أنصاف المعرفة أن يطلقوها، بكل ما تحتوي من معانٍ غير مقبولة اجتماعياً، فكيف هي من متلفظها الثقافي.

وبإمكاني أن أدلل على صحة قولي هذا بأن أقدم للقارئ الكريم نماذج من هذه النعوت المستنكرة اجتماعياً، التي من الصعب أن تأتي في إطار الفعل المعرفي، من مثل "مهاترات، ونزق وشطح، وعدم الاتزان" وأعتقد على وفق ذلك، أن الناقد البارع، الذي يعتمد المحاججة المعرفية يبعد بنفسه عن مثل تلك الألفاظ القيمية الشاذة عن العرف الاجتماعي، ويتجه إلى الحجاجية التي أصبحت من المفاهيم النقدية المتداولة، التي يحاول المعرفيون الأكاديميون نقلها إلى الدراسات الأدبية، حيث تصبح الحجة المدعمة بالدليل برهاناً على ما يفترض، وشاهداً على الرأي الآخر في نكران ما قيل.

حسناً لنذهب إلى ما جاء من طروحات في مقال المعقبة نادية هناوي المعنون (تعقيبٌ ثانٍ على مقالة أدبيَّة: مطبّات التعجّل في قراءة النقد الأدبي) المنشور في صحيفة الصباح العراقية يوم الاثنين ٣ آذار ٢٠٢٥ الذي تناولت فيه الردّ على مقالتي في جريدة الصباح العراقية تحت عنوان (سرد طويل في الاستهلال.. حوار قصير في الخاتمة) المنشور في ٢٤ شباط ٢٠٢٥.

في مقالها (تعقيبٌ ثانٍ)، تنكر المعقبة هناوي على مقالي وصف قراءَتها بالاستسهال والتقديم المعلوماتي الطويل، وبهذا الصدد أكتفي بتعليق الزميل الناقد العراقي عبد علي حسن بقوله: (متفق معك قبل أن تضع هذا الرد - فمقال الدكتورة استعراض ممل وإفراط فيه). 

ويعزز رأي الناقد عبد علي حسن، ما أفصحت عنه الشاعرة نضال القاضي بقولها (يبدو أن للأستاذ فاضل ثامر أفضالا على د. نادية، ما يفسر تطوعها بحماس لرد هي غير ملزمة به).

أما الناقد الأكاديمي والشاعر الدكتور إبراهيم مصطفى الحمد فيقول "تقديري لك وللدكتورة هناوي - لكني قرأت لها ووجدتها تكرر كلامها كثيراً حتى على مستوى الصفحة الواحدة، وتكثر من التنظير إلى حد كبير ولا أعلم ما الذي يدعوها لذلك؟ إذ يفترض بها أن تقلل من التنظير". 

لا أريد أن أجرح المعقبة هناوي بالعودة إلى ما أطلقته من ألفاظ ذكرتها في مستهل مقالتي هذه، لا يليق بأي محاور، إلا أن تقدم حججها على بطلان ملاحظاتي السابقة بالاستشهاد بقول الشاعر والعروضيّ عزيز داخل وهو يقول (الكتابات النقدية هي التزام بكل حيثيات النقد والخروج عن النص بهكذا ألفاظ إشارة إلى فقر الناقدة)، وأعتقد أن حجتي باستفاضة الآخر والتطويل لديه قد قيلت مؤكدة من أدباء وأكاديميين ومبدعين لهم اسماؤهم في الساحة الثقافية العراقية، حيث ألقوا الحجة أيضاً على مقال المعقبة الأول فكيف بهم ومقالها الثاني، الذي استهلته بطروحات تحدثت به عن شروط الناقد وخصائص النقد، والتي لخصتها ب: 

1 – لا بدَّ أن يلتزم الناقد في أي مجادلة جملة مواضعات أهمها اتباع المنطق العلمي.

٢- تحري الدقة والوضوح.

٣- إعطاء القراء اعتباراً.

أعتقد أن هذه الشروط مدرسيَّة بامتياز، يدرسها المتعلّم الجامعي في بدايات حياته الجامعيّة وهو يدرج أولى خطواته لطلب المعرفة، ولا يليق بالمعقبة أن تأتي بها لأنّها تدل على "تسطيح نقدي، باستخدام لفظها ذاته".

يبدو أنَّ أدوات المعقبة لا تزال متعلقة بكتابات "محمد غنيمي هلال" وبخاصة في كتابة "النقد الأدبي الحديث" وما جاء فيه من مسح تاريخي للنقد العالمي والعربي، انطلاقاً من إفلاطون وأرسطو، حيث يبتدئ هذا الكتاب، الذي تتبعت المعقبة رحلته التعاقبية للنقد الأدبي انتهاءً بالمدارس النقدية الحديثة وتأثيراتها في الأدب وسيرورته.

من جانبي لم أفصح عن هذه المعلومة، كي لا أجرح المعقبة معرفياً في تناولي لمقالها الأول الذي تعرض لقراءتي عن مقالة الناقد فاضل ثامر، التي حرصت فيها أن أكون حذراً، من الإساءة والتوصيف الجارح خارج النص المنقود.

لقد ذهبت المعقبة إلى توصيف معارك الرعيل الأول ومخاصماتهم بأنهم يحترمون الآخر في أثناء الحوار، وكان على المعقبة هناوي، أن تذكر النقاد المؤسسين من العرب الذين ردّوا على بعضهم بعضاً بمناقشات معرفية هادئة، وبشكل موضوعي على الرغم من أنّها تسمي حواراتهم (معارك ومخاصمات)، ومن جهة ثانية أسأل أين هم النقاد العرب أولئك الذين يكملون بعضهم البعض؟ طه حسين أم محمد مندور أم عباس محمود العقاد أم المازني، ولكن لأقدم لكِ رأياً  لإيليا حاوي الذي وصف الشاعر بدر شاكر السباب بالبدوي. وما خصومات طه حسين إلا الدليل الواضح على تصارع الثقافة النقدية العربية، وتأتي المعقبة لتلمع الثقافة تلك الحوارات في ماضيها وحاضرها، وهي لم تطلع على صراعهم وشتائمهم التي انشغل بها المثقفون العرب فترة طويلة من الزمن. 

وأستغرب من ذلك وكي أقدم الدليل على خطأ رأي المعقبة التي تريد أن تكون موضوعية حين تصف الرعيل الأول بالاتزان، لا بدَّ لنا من تنبيهها إلى معارك الرافعي والعقاد، التي وصفت بأنّها من أعنف الصراعات الثقافية، حتى أن الرافعي وصف أدب العقاد بالانحطاط، في حين وصف العقاد أدب الرافعي - بل الرافعي ذاته - بضيق الأفق.

من الغرابة أنّ المعقبة تعرف جيداً أن المعارك الأدبية العربية وما فيها من شتائم وألفاظ قاسية (مشخصنة) ليس لها علاقة بمقولتها أو استشهادها الذي تسمية (القاعدة) بأن (الاختلاف لا يفسد للود قضية) الذي هو ليس (قاعدة) وإنما هو قول مستحسن أطلقه المحامي والأديب المصري أحمد لطفي السيد، توصيفاً وتخفيفاً لحدة المعارك بين الأدباء والنقاد العرب، وكل ذلك تسميه (قاعدة).

وهنا أريد تذكير المعقبة بمعارك الزهاوي والعقاد والرصافي ومحمد بهجت الأثري ومعارك زكي مبارك وطه حسين. 

إن الرعيل الأول من النقاد العرب كانوا يبحثون عن الحقيقة واحترام الآخر، أليس هذا فقراً في قراءة التاريخ الثقافي العربي القريب، فكيف بالبعيد، لذا يبدو التناقض واضحاً بين احترام النقاد لبعضهم بعضاً في عبارة المعقبة الأولى، وتوصيف أحمد لطفي السيد الذي أراد تجنيب الأدباء والنقاد الصراعات فنصح بمقولة وليس بقانون كما تدّعي المعقبة.

حسناً لنترك الأمر للقارئ الحصيف، كي يتلمس روح التناقض على الرغم أن الناقد فاضل ثامر وصفها بـ (راهبة النقد العراقي) ولذا نذهب إلى ماذا تقول له مجازاة على توصيفه لها. بأنّه (أحد أعمدة الثقافة العراقية، ومن لم يعرف مسيرته النقديَّة، فهو ليس من النقد والنقاد)، ونحن بهذا لا نعترض على إسهامات فاضل ثامر.

نرد على ذلك بالقول: يكفي ما كتبه فاضل ثامر كي يشهد له، لا أن تشهدي أنت عليه.

الغرابة حقاً وبعد أن انتهت المعقبة نادية هناوي من توصيف فاضل ثامر بعمود النقد العراقي، جاءت لتصف نفسها، بأنها (الأكثر أهمية ومن تثير الاهتمام في مجادلاتها النقدية مع نقاد وكتاب عراقيين وعرب)، وهنا تكمن الصدمة التي تقود إلى حافة التصورات الذهنية والتخيلات اللا معقولة، التي عبرت عنها، وهي تتمثل نفسها مفتخرة نقديا، من خلال كتابها (في الجدل النقدي). 

هنا تتقابل المدائح بين - (راهبة النقد) نادية هناوي، وما يقابلها من (عمود الثقافة العراقية) فاضل ثامر.

وبين (المعروف مسيرته) فاضل ثامر و (المجادل النقدي) نادية هناوي.

 وأتساءَل: أين يذهب النقد العراقي؟ 

ألا بالإمكان التواضع قليلاً، وتجنب الحديث عن الذات بهذه الصيغ التي تقلل من شأن الذات المتضخمة؟! وأنا متأكد أن فاضل ثامر يرفض هذا التوصيف ويحترم زملاءه النقاد العراقيين بتواضع، وهنا تقع المعقبة في تناقضات الكتابة، حين تقودها انفعالاتها إلى النسيان إذ تقول (إنما هو نقاش حوار حول واحدة من المسائل)، وهذا جيد وهادئ جداً، ولكنها بعد ذلك تنسى ما قالته، فتقول ثانية: (إنها دعوة باطلة قيلت في حق ناقد أو أكثر) على الرغم من أنني لم أناقش سوى مقالة فاضل ثامر، وتضيف فتقول: (تجن معرفي شطح فيه بعضهم)، وهي بذلك تثبت بالدلائل على التجني، أو تقول ثالثة إنّه (تفيقه قرائي وهوى كتابي ناجمان عن سوء فهم وتقدير) وأظن أن هذا التوصيف، يدلل على تجاهل مطلق في معرفة أسرار النقد وشروطها.  

هنا أقول: إذا وجد القارئ عبارة جارحة مني في مقالتي عن فاضل ثامر ليوردها لي، أما أن تصف هناوي ما كتبته بالتفيقه، فهذا يستدعي قولي "أعذرك لأسباب كثيرة حق لك فيها أن تكتبي بهذه  الطريقة، كونك تعيشين في عالم مغلق معرفيا".

وأقول ثانية: إنّ المعقبة وصلت إلى حافة الخيال الذي بدت فيه بإطلاق الشتائم حين تكتب "مجانبة الصواب واللا موضوعية فلا تفضيان سوى إلى عدم الاتزان بالهجوم والتقول والادعاء وبلا أسانيد أو حجج علمية".  

تصف هناوي مقدمة مقالتها فتقول: (بالمجموع كانت نظرية تعززها الحجج خالية من التطبيقات الاجرائيّة) هذه النظرية جاءت في صفحتين وهو الاستهلال، وهي في هذا الاستنتاج تعرض نفسها لتساؤلات من قبل النقاد العرب والعراقيين، وتدعوني لقراءتها والتي تجاوزتْ فيها تاريخ النقد الأدبي بعامته حيث لم تكتشف نظرية متكاملة، مثلما سطرت هناوي نظريتها الآن ولم تطبق عليها إجرائياً - كما تقول - بعد.

من الغرابة أن المعقبة تقرأ تاريخ النظرية النقدية العالمية بالطريقة التي تتصورها، لا بما هو واقعة نظرية حدثت حينما تذهب للتفريق بين توجهات نقاد المغرب العربي ونقاد المشرق.

ترى أن محاولة تودوروف لم تنفع ولا محاولات غيره في المحافظة على مكانة المدرسة الفرنسية، كونها قد تراجعت أمام زخم الدراسات الثقافية إذ بلغت مرحلة النضوب المعرفي.

هنا لا بدَّ أن نسأل هناوي: أين يمكن أن نجد هذا الرأي؟ وكيف اهتديتي إليه؟ ومن سرب لك هذه المعلومة الخطأ؟ وكيف تقررين أن نقاد المشرق قد توجهوا إلى الثقافة البريطانية ومن بعدها الدراسات الفرنسية والأميركية.

ترجع المعقبة للنقد الفرنسي، وتصف النقاد العرب بالتراجع نحو الدراسات الفرنسية ثانية.. وكل ذلك بلا دلائل أو أسانيد وترد على من يروج للنقد الثقافي بطريقة عدائية فتقول: (قولنا إزاء من يروج للنقد الثقافي: إنه كان طوق النجاة الذي كفى الكثيرين شر المفاهيم والنظريات).

حاولت المعقبة أن توجه إليهم أصابع الاتهام، رافعة السبابة كي تحذر من يعمل في الدرس الأكاديمي (التدريسي)، أو التأليف ومن يقيم الندوات الثقافية وهي إشارة لأحد أساتذته، بأن الأخير (النقد الثقافي) كان طوق نجاة لهم لذا أخذت ترفع كفها بوجوههم.

  في الجانب الآخر توجه الاتهام ثانية لمن اقترح قراءة (نقد النقد الثقافي) وهو شخص معروف ومتداول اسمه في ساحة النقد العراقي، وهي بذلك ترى نقد النقد الفلسفي، هو ما يقف ضد هذا التوجه بلا دليل واحد.

وفي ضوء ذلك نسأل هناوي: مَن مِن النقاد العراقيين ذهب للنقد البريطاني؟

أرجو أن تقودنا إليهم، ونسألها أيضا كيف انتهت المدارس الفرنسية؟ ومن أين جاءت لك هذه المعلومة؟ ومن هم النقاد المغاربة الذين غادروا النقد الفرنسي؟ 

إن المعقبة هناوي ترى تراجع المدرسة الفرنسية أمام الدراسات الثقافية، وبهذه البؤرة حاولت النيل ممن يكتب بهذه الدراسات، كون المدرسة الفرنسية قد نضبت معرفياً بادعائها، ومن جانب آخر أراها تتكهن بأن: (ستظهر بقوة وفاعلية في القرن الحالي المدرسة الإنجلو أميركية)، وهي تغفل تماماً أن هذه المدرسة قامت على مفاهيم ت.س.اليوت في نظريته الشهيرة بالمعادل الموضوعي، وهي ليست جديدة بما اصطلح عليها بمدرسة النقد الجديد، التي تزامنت جنباً لجنب مع المدرسة الفرنسية، حين فرق إليوت بين العواطف المجردة والانفعالات في النص. 

تجاهلت هناوي مؤثرات الأعمال النظرية لحلقة براغ اللغوية التي قادها رومان ياكوبسن في صلات الشكلانيين والنقد الجديد والبنيوية الفرنسية، وهناك ما هو اكثر وضوحا في أن بعض الكتابات الفرنسية ومنها كتابات (تودوروف) أزالت اللبس بين الخطابين حينما جمعت بين الاسم الانكليزي وأداة الربط الفرنسية، Le new criticism للدلالة على النقد الجديد في صيغته الانجلو أميركية، التي تنبّأت بها المعقبة هناوي الآن بقولها: (ستظهر بقوة وفاعلية في القرن الحالي هي المدرسة الانجلو أميركية)، وكأنّها لا تعرف بأن هجرة رومان ياكوبسن أحد منظري (حلقة موسكو) البنيوي الشهير من موسكو إلى براغ كونه كان ملحقا ثقافيا فيها، وتأسيسه لحلقتها الشهيرة، ثم إلى أميركا قد أسهم في ارتحال وتلاقح هذه النظريات النقدية، وأن تودوروف ترجم مفاهيم جاكوبسن الى الفرنسية عبر مقولات الشكلانيين الروس عام ١٩٦٥. وبذلك بزغت مفاهيم الحركة البنيوية في باريس.

تأتي هناوي مفترضة رأياً آخر حين تقول: (ستظهر المدرسة الانجلو أميركية بقوة وفاعلية)، وهي بذلك لا تتعقب بدقة تأثير وتأثرات هذه المدارس الخمس (حلقة موسكو، حلقة براغ، حلقة بطرسبورغ، المدرسة الفرنسية، المدرسة الأنجلو أميركية) والتي جميعها كان لرومان ياكوبسن فضل حراكها وفاعليتها.

تأتي نادية هناوي لتتحدث عن تودوروف بطريقة لم تستطع من خلالها تقديم أفكار هذا الباحث المهم في تاريخ النقد العالمي خاصة في كتابيه (الأدب في خطر) و (نقد النقد).

لقد ظلت المدرسة الفرنسية فاعلة في نقد المغرب العربي، مثلما دخلت المدرسة الأميركية متمثلة بـ (بلومفيلد) اللغوي الشهير على الدراسات العربية وثمرات توصلاته بها، وبخاصة في دراسات (كمال بشر) و (محمود السعران) وغيرهما من الباحثين اللغويين المرموقين.

 تأتي المعقبة نادية هناوي الآن لتتنبّأ لنا بأن هذه المدرسة ستظهر بقوة وفاعلية في القرن الحالي (والسين للاستقبال). 

أقول للمعقبة هناوي: نحن لدينا أجوبتنا التي سنفرد لها قراءة لاحقة، ولكني أسألك: كيف ذهب العراقيون للنقد البريطاني؟ أليس لديك مقالة الناقد فاضل ثامر النقدية التي نشرها في جريدة (الشرق الأوسط)، ولذا من المنطق ان تطلعي عليها، لتجديه وقد اتكأ على الدراسات والنقاد الفرنسيين في أغلب المقولات التي استلّها. 

لا بدّ من القول هنا: إني لا أعيش معركة شخصية، مع فاضل ثامر بل تحدثت عن مقالة له فقط استنكرها الكثيرون وعدوها ضعفاً في أدائه النقدي، وكان عليه تجنب الخوض في نقد النقد الأدبي وذهابه إلى نقد النقد الفلسفي.

أستغرب حقاً هذا الانفعال الذي أوقع المعقبة هناوي في عدم فهم ما أكدت عليه وبصياغة جديدة أبسطها الآن، كون ما جاء في مقالة ثامر عن نقد النقد الفلسفي، ليس له، بل للنقاد الذين استشهد بهم، وبالضرورة يصبح فحوى المقالة ليس له، إنما هو فحوى أصحاب المقولات التي اقتبسها ثامر، وهي متناقضة منقولة من أصحاب نظريات متنافرة ومتصارعة، أليس هذا مفهوماً! ولكنه كما يبدو غير مفهوم عند المعقبة التي تنسى ما كتبته قبل قليل، لتقرر معلومة أخرى، وعلى وفق ذلك أجد أنه من المضحك قولها بعد قليل: (شتان ما بين المنهج السوسيولوجي البنائي ومنهج  التلقي بطروحات آيزر وياوس وريفاتير)، وكأنها تقرر معلومة جديدة، وبذلك تجاهلت مرتكزات المنهج السوسيولوجي البنائي، ولم تقرأ "لوكاتش وكولدمان والتوسير"، ولم تقترب أصلاً من مفاهيم التجاور والابتعاد بين طروحاتهم النقدية، وقد جاءت بذكرهم تعقيبا على ذكرنا لما قدم هؤلاء الثلاثة من اتجاه مغاير في المنهج البنائي، ومن الغرابة أن تقرر ما لم أقله في تساوي منظري نقد استجابة القارئ والقراءة والتلقي، مع منظري المنهج السوسيولوجي البنائي، وهذه مقاربة غريبة منها، فلم أقل بتساوي المنهجية إجرائياً، وأطلب منها اقتطاع مقولتي وعرضها على الملأ ليتبين ادعاؤها وفهمها من عدمه، ولهذا أقول من الصعب أن يدعي الناقد الذي من مهماته كشف الحقيقة وإماطة اللثام عن المعرفة، ومثال ذلك تدعي المعقبة أنني لم أقرأ مقالة فاضل ثامر (النقد الأكاديمي في مواجهة شعرنا الحديث) المنشورة في مجلة الأقلام العراقية عام ١٩٨٣.

وسؤالي ببساطة لها: كيف تفسرين حديثي عن مفاصل المقالة التي تناولت أربع رسائل دكتوراه؟ وللسخرية أنها تذكر المعلومة والتي أوردتها بأنها حكم متعجل وقراءة فقيرة وأنا الذي قدمت لها عدد صفحات المقالة (١١) صفحة وعدد مصادرها ٤٢ مصدراً باستلالاتها، وهنا بعد قولتها تلك، شعرت بانتقالها سريعاً، من أن تدلل على (عجالتي وقراءتي الفقيرة) التي وصفت مقالتي بها. لهذا ذهبت المعقبة إلى مقالة فاضل ثامر الأولى "نقد النقد الفلسفي" وتوصيفي لها (بأنها سريعة).

أقول للمعقبة يبدو أنك في تنقلاتك كنت أسرع من تحولات الناقد فاضل ثامر وتنقلاته بين مقالات النقاد الأوروبيين، الذين أسس على مقولاتهم مفهومه في نقد النقد الفلسفي، ثم تذهب المعقبة هناوي سريعاً مستخفة بطروحات الدكتورة الجزائرية (بدرة قرقوي) التي وصفت المعقبة كتاب قرقوي (نقد النقد في المغرب العربي) بأنه عمل مدرسي.

سأحاول تقريب الفكرة للمتلقي، فأقول بصياغة ثانية: إن المعقبة تنقلت في فقرتين صغيرتين بين أربعة موضوعات وهي:

1. تناقشني على تناول منهجين نقديين مختلفين السوسيولوجي والتلقي، وهي نفسها من أقحمت منهج التلقي في تعقيبها الأول.

2. ادعاؤها بعدم اطلاعي على مقالة (النقد الأكاديمي) في مجلة الاقلام وسبق أن  ذكرت مفاصلها وتوصيفها كاملة في قراءتي.

3. ترفض استنتاجي بأن مقالة الناقد فاضل ثامر سريعة ولم تدلل على العكس من ذلك.

  4 . استخفافها بطروحات الباحثة الجزائرية الدكتورة (بدرة قرقوي) وكما يبدو أن فقر المعقبة المعرفي يقودها لتوصيفات لا تمت للنقد بصلة ولا للحوار المعرفي برابط.

ولنأتِ إلى موضوعة غريبة حقاً حين تقول المعقبة نادية هناوي: (يعلم أي ناقد حصيف أن حوارات المنظر الأدبي -وتقصد تودوروف- هي غيرها نظرياته و من يريد أن يتزود من فكره فعليه بالاطروحة التي صاغها، أما الحوارات وما فيها من نرجسيات ومزايدات فليست مجالاً للاعتداد) وتنسى هذا الاستنتاج فتقع ثانية في هوة عميقة، لأن كتاب (نقد النقد.. رواية تعلم) لتودوروف بترجمة د. سامي سويدان ضم حواراً بينه وبين (بول بنيشو) حول كتابات الأخير من صفحة ١١٧ حتى ص ١٤٣، وهي أي المعقبة تشير إلى هذا الحوار قائلة:

(كما تقترح على المعقب أن يتمعن جلياً في الحوار الذي جرى بين تودوروف وبول بنيشو ليكتشف جماليات الجدل النقدي).

 وبذلك أتأسف كونها أنكرت الحوار الذي جئتُ به من مجلة (فصول) النقدية المحكمة في عددها المعنون ملف نقد النقد العربي برقم ٧٠ في ربيع ٢٠٠٧، بينما تصدق هناوي الحوار الذي جاءت به من كتاب تودوروف (نقد النقد - رواية تعلم).

وبهذا الصدد وهي تستنكر حوارات المنظرين وتعتبرها غير معتدٍ بها دراسياً أقول لها: هل تعرفين أن أعظم الطروحات والكشوفات المعرفية متولدة من الحوارات التي قام بها المنظرون، ولنأخذ محاورات افلاطون. والقديس اوغسطين في مذكراته، ومفاهيم ماركس التي لم يقدمها بشكل أطروحة، إنما من خلال شهادات مراقبي المصانع التي امتلأ بها كتابه الشهير (رأس المال).  أليس هذا غريباً حقاً وهو يصدر عن عقل يشتغل في النقد الحديث وينسى بعد سطرين أو أكثر؟ من باب آخر أقول: إذا كانت بحسب المعقبة أن (الأمثال تضرب ولا تقاس) فلماذا تستشهدين بها ما دامت لا تقاس، وأنت تدعين أنك ناقدة ما بعد حداثية.