الصنعة والرؤيا

ثقافة 2025/03/20
...

  محمد صابر عبيد

يظل مفهوم (التشكيل) المشتغل في منطقة الأدب عموماً، وفي منطقة الشعر خصوصاً، مفهوماً عصياً على التحديد الإجرائي الدقيق، وصعباً على التقنين الاصطلاحي المجرّد، وذلك لأنه محول أولا من منطقة الرسم الأدواتيّة الفنيّة والجماليّة، وثانياً لأن حركته في ميدان اللغة واسعة وغامضة وعميقة ومتداخلة ومشتبكة لا يمكن أن تحدها حدود واضحة، على النقيض من حركته الدينامية الرحبة في منطقة الرسم إذ تتجلى هذه الحركة بكل قوة ووضوح وتمظهر في المساحة والكتلة والخط واللون، داخل أبعاد مرئية في حدود اللوحة يمكن مباشرتها بصرياً والإحساس بها تخييلياً.

يمكن مقاربة مفهوم التشكيل ابتداءً في تحليل العلاقة التي يشتغل عليها التشكيل بين الصنعة والرؤيا، إذ بلقاء الصنعة والرؤيا وتضافرهما وتداخلهما تتضح معالم مفهوم التشكيل وتبدأ أوّل خيوطه الفنية والجمالية بالبروز في حاضنة النص، إذ تتصل الصنعة بالمهارة والحذق وإتقان اللعبة الشعرية باستخدام أكبر طاقة ممكنة من التجربة والخبرة، والاستعانة بالثقافة والمعرفة والعلم والحساسية والحدس وكلّ ما هو ممكن ومتاح وضروري لخدمة العملية الإبداعية، فالصنعة الشعرية ضرورة فنية وإبداعية وجمالية يبقى النص ناقصاً من دون تفعيلها وتشغيلها في جميع مراحل التكوين النصّي، وإذا كانت الصنعة تمثّل الجناح الضروري الأوّل للعملية الإبداعية فإن الرؤيا تمثّل الجناح الضروري الثاني، إذ إنّ الصنعة وحدها لا يمكن أن تنتج نصاً شعرياً خلّاقاً من دون الاعتماد على طاقة الرؤيا في نقل فعاليات الصنعة إلى مقام فني وجمالي خصب وكثيف ومثمر، كما أنّ الرؤيا وحدها لن يكون بوسعها إنتاج نصّ شعري يضمن بقاءه طويلاً في منطقة التداول القرائي.  

من هنا يمكن النظر إلى أهمية الصنعة وضرورتها في التشكيل الشعري بوصفها القدرة على إيصال النص إلى أعلى مرحلة إبداع تقاني ممكنة، لأنها تعمل على ضبط عمل الأدوات ودقّتها، وتحقيق التوازن التشكيلي المطلوب بين العناصر، وتنقية الفضاء الشعري ليبلغ ذروة الصفاء الأسلوبي والتعبيري والتصويري.

هذا هو معنى الصنعة الشعرية وطبيعتها وكيفية أدائها في العملية الشعرية، ولهذه الصنعة تاريخ حافل في الشعرية القديمة عند العرب يتمثّل بما هو معروف بـ (شعراء الحوليات)، الذين كانوا لا يُخرجون قصائدهم إلا بعد أن يمرّ عليها (حول كامل) تخضع فيه للتنقيح والتحكيك والتجويد، حتى تبلغ الدرجة التي تمكّنها من مضاهاة النماذج العليا المعروفة في التشكيل الشعري المتداول برفعة وتألق ومكانة، وكانوا يختلفون بذلك عن الفئة الشعرية الثانية التي لم تكن تهتمّ بالصنعة الشعرية وكان يصطلح عليهم بـ (أصحاب الطبع)، الذين يعتقدون بأن الموهبة وحدها تكفي لتشكيل نصّ شعري عالي المستوى ونافذ التداول، وربما ذهبوا إلى أن آليات الصنعة قد تفسد عفوية الشعر وانسيابيته.

وهو ما يقتضي على هذا الأساس مقاربة علاقة الصنعة بالثقافة، ومدى قوّة تأثير الثقافة في صوغ التشكيل الشعري ودعمه وتمتين أواصر بنائه وخصب طاقته التعبيرية والأدائية في رسم سياسة النص الشعري داخل مجتمع القراءة، على النحو الذي يدعونا إلى مقاربة العلاقة بين الموهبة المثقفة والموهبة الأمية، وهل تختصّ الموهبة المثقفة بالعمل على الصنعة والموهبة الأمية بالإيمان بالطبع؟ إذ الثقافة اليوم هي مموّل رئيس ورافد مركزي من روافد التجربة الأدبيّة عموماً والشعريّة خصوصاً، ومن دونها يبقى النص الشعري خارج منطقة الاهتمام والقراءة، ولا تتوقّف الثقافة بطبيعة الحال على ثقافة الكتب فحسب بل ثقافة التجربة والممارسة والرؤية والرؤيا وغيرها مما يتصل بالشعر من قريب أو بعيد. 

ثمة تجربة في الثقافة وتجربة في الحياة، ومن أجل أن يصل التشكيل الشعري ذروته لا بدّ من التحام حقيقي بين التجربتين، لأنّ اعتماد كلّ تجربة على حدة يذهب بها إلى مصير آخر لا يشتهيه النص الشعري ولا يبتغيه ولا يمكن أن ينجز به شعريته المطلوبة، لذا فإن التشكيل الشعري يقتضي حوار التجربتين وتضافرهما وتداخلهما في فعالية إبداعية واحدة، تضخّ الممارسة الشعرية بقدرٍ عالٍ من الحيوية والرؤية والرؤيا والنشاط.  

إنّ هذه العلاقة بين تجربة الثقافة وتجربة الحياة تقتضي نوعاً من التفاهم الفعّال والمنتج، وهو يستلهم من تجربة الحياة حرارتها، ومن تجربة الثقافة هندستها وفضاءها العميق، فتعمل حرارة الحياة وتدفقها وسخونتها على ضخّ النصّ الشعري بالنبض الحيّ والتوهّج والتوتّر والحساسية والتنوير، وتعمل هندسة الثقافة على إنجاز فعالية التخطيط والترتيب والتوازن والتنظيم والهيكلة، وبتنافذ العملين في مرجل إبداعي واحد يتمّ الارتفاع بالتجربة الشعرية إلى مصاف التشكيل المطلوب. أما الرؤيا التي تعدّ الجناح الثاني المُناظِر للصنعة فهي بمثابة الثريا التي تغذّي عمليات الصنعة بالضوء والنور والوضوح، وترطّب أدوات عملها وتزوّدها بالقدر الكافي من الماء الشعري المطلوب، إذ الرؤيا على هذا الصعيد ليست مجالاً حلميَّاً فقط بل هي مجال حدسي عالٍ تدعمه الثقافة أيضاً في سياق فعّال ومنتج من سياقاتها.

تنفتح الرؤيا على كلّ الممكنات المؤلّفة للنص الشعري بلا استثناء، فمن (الرؤيا المعرفة) إلى الرؤيا المقترنة بصدق القراءة المستوحاة من تجربة الثقافة وتجربة الحياة، والرؤيا التي تخلق مجالاً رؤيوياً لرؤية ما لا يرى، مما لا يقف عند حدّ معيّن ومقنن، فالرؤيا فضاء بالغ التشكّل وعالي الحضور وواسع الانفتاح وخصب الإنتاج، على النحو الذي يتلاءم كثيراً مع طبيعة الشعر وكيفية تشكّله في النصوص، والرؤيا بعد ذلك هي التي تجعل الصنعة الشعرية ممكنة وعملها مقبولاً في دائرة الشعرية. 

إنّ تفاعل الصنعة والرؤيا على وفق هذه المفاهيم واستجابة لهذه القيم والدلالات هو سبيل الوصول الحاسم والأكيد إلى محطة التشكيل، فلا الصنعة وحدها قادرة على إنجاز مهمة التشكيل الشعري بكفاءة عالية ومتكاملة، ولا الرؤيا وحدها قابلة لأن تحقق ذلك بالصورة المرتجاة في نص شعري قائم على تجربة الحياة وتجربة الثقافة معاً. وإذا كانت (النصيّة) هي الظاهرة المنهجية اللافتة والبارزة والمنتجة في قراءة بنيوية النصوص المنتخبة، فإن عملية الاستحضار الدائم لمفهوم التشكيل بين يدي المنهج حال دون التوقّف عند نقطة معينة، أو فكرة محددة، أو نشاط مقنن، أو رؤية واحدية، أو قضية لافتة، بل انفتح المنهج على كلّ ما يمكن أن يتيحه التشكيل الشعري في هذه النصوص من تجربة وثقافة وصنعة ورؤيا ورؤية وفكرة، باحثاً أصيلاً في النسيج والخلايا والمكوّنات والأدوات والتقانات والعناصر والمرجعيات، بكلّ حرية وديمقراطية وبهاء ورحابة وحيوية ونشاط وفعالية.