أ. د. باسم الأعسم
ما دامت الفنون الإنسانية المتنوعة، قد ارتبطت بالإنسان واحتياجاته، وفكره وذائقته، فإنها لم تكن اعتباطية النشأة أو التكوين، إذ إنّ ثمة أهداف اجتماعية واخلاقية وتربوية وجمالية، قد انطوت عليها تلك الفنون، فاكتسبت عظمتها وجدواها، وكما قيل إنّ "الربط بين الفن، ونشاط الإنسان الأخلاقي مأثرة عظيمة من مآثر - أرسطو"، الذي أراد من الفن أن يطهّر النفوس ويحرّرها من الضغائن الضارة، بوساطة التطهير، وليس عبر التراجيديا حسب، بل من خلال الفنون السمعية، والبصرية والحركية، فتنشأ الأهداف السامية التي تضفي على الفنون الابعاد الإنسانية، والأفكار الجليلة المتسامية، فتتفرد الفنون من سواها من وسائل التعبير، أو الخطابات الإبداعية بدور الريادة في التأثير على سلوك الإنسان وتقويمه، بما تتضمنه من فلسفات وأفكار وأساليب وأهداف تنويرية تستهدف الارتقاء بوعي الإنسان، حتى يبلغ مرحلة الجلال الأخلاقي والفكري.
ولذلك لا يليق بالفن على تنوعه، أن يكون في موضع متردٍ لا يحسد عليه، وكذا حال الفنان لا يشرفه أو هكذا يفترض أن يكون مهرجاً في سيرك بائس، فقدر الفن الرفعة، وقدر الفنان السمو على ما هو وضيع، ومن هنا اكتسب الفن جلاله، والفنان عظمته، وأن الفن على حد قول الناقد "هربرت ريد: كالهواء والتربة اللذين يحيطان بنا من كل جانب"، كما أن الفنون جميعها، لا تقف عند دور محدد، إن كان هدفها الرئيس الارتقاء بإنسانية الإنسان، فالمسرح خطاب إنساني رفيع المستوى، والتشكيل رسائل تنطوي على متعة بصرية آسرة. وأما الموسيقى فإنها غذاء الروح بغض النظر عن النظرة الرأسمالية التي تحيل الفنون إلى محض سلع مجردة، لكنها تبقى من أخص مؤشرات الثقافة والمدينة والتحضر، لكن أهدافها تتعدد بتنوع اشكالها واختلاف أساليب انتاجها وطرائق تقديمها، فإلى جانب الهدف الترويحي أو الترفيهي، ثمة أهداف فكرية وتوعوية وتربوية ووطنية، تتوج الفنون بوصفها رسائل إنسانية مؤطرة بخطابات ثقافية وحضارية تجعلها ذات وقع خطير وتأثير كبير في مسار الأحداث الاجتماعية، انطلاقاً من كون الفن، شكل من أشكال الوعي الاجتماعي على وفق المنظور التقدمي.
إنَّ الفنان الحقيقي يؤرقه أمر إشاعة الفن الملتزم ولو ضحى بحياته، من أجل تحقيق هذا الهدف، إذ تحكي سير الفنانين عن مواقف جليلة، بفضلها أصبح الفن من ضروريات الحياة، بعد أن يكون الفنان قد عصم نفسه من الزلل، واللامبالاة، والعدمية في التفكير، والسلوك، والإنتاج الفني.
إن الدفاع المستميت عن قضية الفن وحرية الفنان، يراد به الدفاع عن الحياة الحرة الكريمة، وهي تأتلق عبر الفنون.
لعل من أبرز الأهداف السامية التي تبثها الفنون الجميلة، إشاعة الجمال لمواجهة القبح في مفاصل الحياة، وتحقيق اسمى درجات المتعة من دون اسراف أو تسفيه، إلى جانب نشر كل ما يتعلق بالعلم، انطلاقاً من كون الفن نشاط معرفي في المقام الأول، وهنا يلتقي الفن والعلم، روافد الحياة مع المعرفة، والجمال لتروي الظمأ الروحي للإنسان والمجتمع، وتلك غاية جليلة، يسعى الفنانون إلى تحقيقها لتوطيد دعائم المجتمع المتنور، والفرد المتذوق، لأشكال الفن الساعية باتجاه تطهير النفوس، وتنوير العقول، وتنمية الأذواق، وعندئذٍ نطمئن على مستقبل الأجيال الواعية، التي تنهل من الفن ما يعزز وعيها، وذائقتها وثقتها بقدراتها العلمية والأدبية والفنية، إذ إن المجتمع المتنور، هو المجتمع المتطور والمتحضر، وهذا ما نبغيه لإنساننا ومجتمعنا، إذا ما أدركنا أن الحضارة بالنسبة للفيلسوف "جورج فيلهلم فريدريش هيغل" تبدأ بالفن.
إنّ الفنون الجميلة الى جانب كونها تشيع الجمال والذوق والتسامح والامتاع، وهي أهداف جليلة، فإنّها بمعطياتها الجميلة، ترسم لوحة آسرة للحياة، وتتمم ما تفعله الفلسفة والآداب والعلوم صوب تأثيث مجتمع متعلّم، يتخذ من الفنون وسائل ناجحة في اجتناب القبح في الحياة، والتشبّث بكل ما هو جميل.
الفنون لغات سامية تفصح عمّا تجيش به صدور الناس من أفكار وتأمّلات وأحلام، تهفو باتجاه غدٍ مشرق وجميل تضيءُ به الفنون ظلمات الواقع والنفوس، إذ إنّ الفنون مضادات حيوية، بها تحصن مناعة المتلقين، فتكسبهم القوة والتحدي والقدرة على التواصل الفني، بما يحقق الحوار الجمالي بين المتلقي والعمل الفني، فتشاد العلائق الإنسانية المتسامية بين الفنون ومبدعها الإنسان الخلاق. وعندما تتوثق علاقة الإنسان بالفنون، تتسامى ذائقته وتتهذب سلوكياته وترتقي مشاعره وتنفرج أساريره، فيغدو إنساناً مثالياً، ونموذجاً مائزاً في الثقافة والتحضر والذوق، وتلك خصال لم تتح لكل من هب ودب، إنّها تعبير عن علاقة مثلى بين الذات والآخر، يشيدها الوعي، وتمتنها الخبرة، وتصقلها الثقافة، وتلك هي فضائل الفنون وأهدافها الجليلة.
وضمن سياق الأهداف السامية للفنون السمعبصرية، استحدثت معاهد وكليات الفنون الجميلة، التي اشتقت أهدافها التربوية والتعليمية والجمالية من صلب معطيات الفنون الجميلة، وصلاتها الوثيقة بذائقة ومهارة وخبرة الأجيال، إلى جانب استعداداتها السيكولوجية، فعدت من المؤسسات التربوية، التعليمية المختلفة، بما تحتويه من مفردات مختلفة وملاكات إبداعية، على قدر كبير من السطوع الفني، والشهرة الفسيحة.