تركيا عند مفترق الطرق: بين التحديات الداخليَّة والخارجيَّة

آراء 2025/03/23
...

 ناجي الغزي


تشهد تركيا في الفترة الأخيرة تطورات سياسية وداخلية متسارعة، تعكس صراعات عميقة على المستويين المحلي والإقليمي. هذه التطورات لا تقتصر على المواجهة بين الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، بل تمتد إلى تداعيات إقليمية ودولية، خاصة في ظل التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الإسرائيلي والتي أضافت بعداً جديداً للمعادلة التركية. هذه الأحداث تضع تركيا في مفترق طرق، حيث تتصارع القوى الداخلية والخارجية لتحديد ملامح مستقبلها ودورها في المنطقة. قبل يومين تصدرت تركيا عناوين الأخبار العالمية بعد اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، أحد أبرز وجوه المعارضة وأكثرها شعبية. إمام أوغلو، الذي ينتمي إلى حزب الشعب الجمهوري (CHP)، يُعتبر من أبرز المنافسين المحتملين لأردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة. اعتقاله بتهم تتعلق بالفساد ومساعدة جماعة إرهابية أثار موجة من الغضب الشعبي والانتقادات الدولية، حيث وصفها حزبه بأنها "محاولة انقلاب على رئيسنا القادم". إمام أوغلو، الذي فاز بمنصب رئيس بلدية إسطنبول في انتخابات 2019، يُعتبر رمزاً للمعارضة التركية التي تسعى إلى إنهاء هيمنة حزب العدالة والتنمية (AKP) بقيادة أردوغان. اعتقاله جاء في إطار حملة قضائية وسياسية واسعة تستهدف شخصيات معارضة، مما أثار تساؤلات حول مدى استقلالية القضاء التركي وحقيقة الدوافع وراء هذه الإجراءات.

من جهته، دافع أردوغان عن اعتقال إمام أوغلو، ووصف انتقادات المعارضة بأنها "تمثيليات لا طائل منها". وأكد أن الشرطة والقضاء يعملان وفقًا للقانون، مشيرًا إلى أن الوقت لا يُضيع على "مسرحيات المعارضة". ومع ذلك، فإن هذه التصريحات لم تمنع اندلاع احتجاجات شعبية في إسطنبول ومدن أخرى، حيث تجمع المئات أمام مركز الشرطة الذي اقتيد إليه إمام أوغلو، وهتفوا ضد حزب العدالة والتنمية وطالبوا بالإفراج عنه. اعتقال إمام أوغلو يعكس انقسامًا حادًا في المجتمع التركي بين مؤيدي أردوغان وأنصاره الذين يرون في هذه الإجراءات ضرورة لمكافحة الفساد، ومعارضي النظام الذين يعتبرونها جزءًا من حملة قمع سياسي تهدف إلى إسكات الأصوات المعارضة وإضعاف فرصها في الانتخابات المقبلة. هذا الانقسام لا يقتصر على الشارع التركي، بل يمتد إلى داخل المؤسسات السياسية والقضائية، حيث تتصاعد التوترات بين الحكومة والمعارضة.

في رسالة مكتوبة بخط اليد، دعا إمام أوغلو أعضاء الحزب الحاكم والقضاء إلى معارضة الظلم، واتهم أردوغان بالفساد. هذه الرسالة، التي تم تداولها على نطاق واسع عبر منصات التواصل الاجتماعي، أضافت زخمًا إلى الاحتجاجات، حيث بدأ العديد من الأتراك يرون في اعتقاله محاولة لتصفية الخصوم السياسيين بدلًا من تحقيق العدالة. بينما تشهد تركيا صراعات داخلية، فإن موقفها الإقليمي يتأثر أيضًا بعلاقاتها المتوترة مع إسرائيل. في الأسابيع الأخيرة، تصاعدت حدة الخطاب التركي تجاه إسرائيل، خاصة بعد التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الإسرائيلي التي انتقدت السياسات التركية في المنطقة. هذه التصريحات جاءت في سياق النفوذ المتزايد لتركيا في مناطق مثل ليبيا والصومال وأذربيجان، ما أثار قلق إسرائيل والغرب.

تركيا، التي كانت في الماضي حليفًا إستراتيجيًا لإسرائيل، تحولت إلى خصم سياسي وعسكري في السنوات الأخيرة. أردوغان، الذي يقدم نفسه كقائد للعالم الإسلامي السني، استخدم القضية الفلسطينية كأداة لتعزيز نفوذه في المنطقة، مما أدى إلى تصاعد التوترات مع إسرائيل. هذا التحول في السياسة التركية يُعتبر جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى تعزيز الهيمنة التركية على العالم السني، خاصة في ظل تراجع الدور التقليدي للقوى العربية. المشهد التركي اليوم مفتوح على عدة سيناريوهات، حيث تتصارع القوى الداخلية والخارجية لتحديد ملامح المستقبل. على المستوى الداخلي، قد تؤدي الاحتجاجات المستمرة واعتقال إمام أوغلو إلى مزيد من التصعيد، خاصة إذا فشلت الحكومة في احتواء الغضب الشعبي. هذا التصعيد قد يدفع تركيا إلى مرحلة من عدم الاستقرار السياسي، مما يؤثر في قدرة أردوغان على الحفاظ على قبضته على السلطة.

على المستوى الإقليمي، فإن التوترات المتصاعدة بين تركيا وإسرائيل قد تؤدي إلى مزيد من التصعيد العسكري أو السياسي، خاصة في ظل النفوذ التركي المتزايد في مناطق مثل سوريا وليبيا. هذا التصعيد قد يدفع الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، إلى التدخل لاحتواء الدور التركي، مما يهدد التوازن الإقليمي القائم منذ عقود. 


*كاتب سياسي