سلمان النقاش
لطالما كانت النزاهة محورا إشكاليا في منظومة القيم الإنسانية، فهل تعد النزاهة خيار فردي أم نتاج بنية سلطوية تفرض محدداتها على الجميع؟ فبعدّها إشكالية، فاتها لا تصف كقيمة أخلاقية مجردة، بل كمعادلة تتشكل داخل بنية السلطة ذاتها، حيث يصبح الفساد أكثر قدرة على التجدد والاستمرار.
فمع تطور المجتمعات، لم يكن الالتزام بالنزاهة مجرد مسألة أخلاقية بحتة، بل كان محكوما بالبيئة التي تُنتج القيم وتعيد تشكيلها وفقا لمصالح القوى الفاعلة، لقد كان الفساد في كل الأزمنة أكثر قدرة على الاستمرار مقارنة بالنزاهة، ليس لأنه أقوى بطبيعته، بل لأن بنيته تتجدد باستمرار، بينما النزاهة تظل دائما فعلا مقاوما في مواجهة منظومة، تحاول امتصاصها وإعادة تعريفها لصالحها.
حين كان الإنسان يبحث عن العدل كضرورة، كان ينتهي دائما إلى خلق أنظمة غير عادلة، فهل تكمن المشكلة في الأفراد، أم في البنية التي تجعل الفساد هو القاعدة والنزاهة استثناء؟ لم يكن غياب القيم هو العائق أمام تحقيق العدالة، بل قدرة السلطة على إعادة تعريف العدالة وفقا لحاجاتها، ففي المجتمعات التقليدية، ارتبطت النزاهة بالدين والأخلاق، لكنها اليوم أصبحت جزءا من معادلة أكثر تعقيدا، تتداخل فيها السياسة، الاقتصاد، والتكنولوجيا، حتى حين يتم تشريع قوانين لمحاربة الفساد، نجد أن المتحكمين بهذه القوانين هم أنفسهم جزء من المشكلة التي تجعل الفساد سائدا في قيمه، إذ يُعاد تعريف "الشفافية" وسائر طرق النزاهة مثل الإصلاح والحوكمة إلى أدواتٍ لإدارة الأزمات لا لحلّها، ما يجعل النزاهة أداة للضبط بدلا من أن تكون قيمة جوهرية للتحوّل الحقيقي.
ومع توسّع مساحة اشتغال الذكاء الاصطناعي، أصبحت الرهانات على أنه قد يكون أكثر نزاهة من البشر، لأنه لا يمتلك مصالح شخصية أو تحيزات، ولكن هل يمكن حقا الاعتماد على الأنظمة الرقمية لتحقيق العدالة؟ اذ بات معلوما أن الذكاء الاصطناعي قادر على إدارة الموارد بكفاءة دون محاباة، وتحليل الفساد بشكل موضوعي دون تدخل العواطف، وخلق أنظمة أكثر شفافية، لكن هذه الرؤية تتجاهل كون الذكاء الاصطناعي ليس منفصلا عن السلطة، فهو يُصمَّم وفق معايير يحددها صانعوه، الذين ينتمون إلى أنظمة اجتماعية وسياسية لها أهدافها وتوجهاتها، وإذا كانت الحكومات تتحكم اليوم بالقوانين، فمن يضمن أنها لن تتحكم غدا في الخوارزميات التي تدير حياتنا؟
لقد تطورت وسائل الرقابة لتصبح أكثر تعقيدا، فلم تعد السلطة تعتمد على الشرطة والمحاكم، بل باتت تستخدم أنظمة غير مرئية تتحكم في تدفق المعلومات، تمنح الامتيازات لمن تريد، وتحجب الحقيقة عمن لا يناسبها، وهنا قد يتبدد الوهم بأن التكنولوجيا ستجلب النزاهة لمجرد أنها غير بشرية، لأن المشكلة لم تكن في البشر فقط، بل في المنظومات التي تعيد إنتاج الفساد وفق أدواتها المتاحة، سواء كانت قوانين أو خوارزميات.
الصراع لم يعد على الموارد الأساسية كما كان في الماضي، بل على الامتيازات، لم يعد العالم يعاني من نقص في الغذاء، لكنه يعاني من توزيع غير متكافئ له، فتحول الصراع من تأمين الاحتياجات الأساسية إلى تحديد من يحصل على الأفضل، مثال بسيط يمكن أن يوضح ذلك: بيض المائدة، الذي لم يكن متاحا في الماضي إلا وفقا لدورة الطبيعة، هو اليوم يُنتَج بكميات مهولة بسبب الصناعة المكثفة، ورغم ذلك لا تزال هناك فجوة بين من يستهلك "بيض المزرعة العضوي" ومن يكتفي بالمنتج التجاري العادي، هذه الفجوة تعكس بدقة الصراع في عالم اليوم فلم يعد السؤال من يملك الطعام، بل من يملك النوعية الأعلى، التعليم الأفضل، والرعاية الصحية الأرقى.
التكنولوجيا لم تُلغِ الفساد، بل جعلته أكثر تعقيدا، قد تكون الأنظمة الرقمية قادرة على الحد من الفساد التقليدي، لكنها في الوقت ذاته تخلق مستويات جديدة من التحكم الناعم، حيث تتحول الشفافية إلى أداة ضبط، والمعلومات إلى سلعة خاضعة لسيطرة من يملك القدرة على إدارتها. ومع دخول العالم عصر الذكاء الاصطناعي، فإن السؤال لم يعد فقط عن كيفية مكافحة الفساد، بل عن كيفية ضمان أن تكون السلطة القادمة أكثر عدلا من سابقتها.
السلطة لا تختفي، بل تتحول، والشفافية قد تصبح أداة أكثر فاعلية في المستقبل، لكنها لن تُلغي الصراع على السلطة، بل ستنقله إلى ساحة جديدة، حيث لم تعد النزاهة مسألة أخلاق، بل قرار تُعيد هندسته الخوارزميات وفقا لمعادلاتٍ لم يُقررها البشر وحدهم.
*كاتب وصحفي