الشعر العراقي.. إرث العمالقة وتحديات الحداثة

ثقافة 2025/03/24
...

  بغداد: رسل عقيل


لطالما كان الشعر العراقي جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية والأدبية للبلاد، حيث برز عبر العصور شعراء تركوا بصمتهم العميقة في المشهد الأدبي العربي، أمثال بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، والجواهري، الذين أعادوا تشكيل بنية القصيدة وفتحوا آفاقا جديدة للشعر الحديث. ومع هذا الإرث الغني، يواجه الشعر اليوم تحديات كبرى في ظل تحولات العصر الرقمي وسرعة التلقي، مما أفرز جيلاجديدا من الشعراء يكتبون بأساليب مختلفة، تتراوح بين الأصالة والتجديد.

يأخذنا أبو قصي البغدادي في رحلة عبر الزمن، حيث يستحضر كلمات نازك الملائكة: "أي غبن أن يذبل الكائن الحي ويذوي شبابه الفينان"، ليرد عليها بدر شاكر السياب: "لا تزيديه لوعـة فهو يلقاك… لينسى لديك بعض اكتئابهَ"، ثم تكمل لميعة عباس عمارة: "عاد الربيع وأنت لم تعد يا حرقة تقتات من كبدي". يختتم أبو قصي حديثه بجملة تلخص واقع الشعر العراقي اليوم: "أين كنا، وأين أصبحنا الآن؟"، في إشارة إلى التحولات التي شهدتها الساحة الشعرية.


البحث عن الشهرة

مع اتساع نطاق منصات التواصل الاجتماعي وانتشار وسائل النشر الرقميّة، أصبح الوصول إلى الجمهور أكثر سهولة، لكن ذلك أدى في الوقت ذاته إلى تحديات تتعلق بجودة المنتج الشعري. يرى مؤرشف الشعر الشعبي حيدر جليل أن الشعر الشعبي والفصيح في العراق يمثلان جزءًا رئيسيًا من تاريخ البلاد وحضارتها، إذ يعكسان التحولات السياسية والاجتماعية التي مرت بها البلاد عبر العصور.

ويضيف في حديثه لـ "الصباح": "الشعر والفن عمومًا مرتبطان بمعاناة الإنسان وحاجاته اليومية، ولذلك كان لشعراء القرن الماضي، مثل السياب ونازك الملائكة، ارتباط وثيق بالحركات التقدمية السياسية التي أثرت على نتاجهم الأدبي. أما اليوم، فإن بعض الشعراء يكتبون بدافع الشهرة وليس من منطلق المسؤولية الإبداعية، وهو ما يؤدي إلى ضعف المحتوى الشعري المتداول".

يؤكد حيدر أن ثقافة الشاعر تحدد مستوى نجاحه الفني، فالشاعر الحقيقي هو الذي يدرك قضيته ويتعمق في جذورها التاريخية، مما يحفز إبداعه في النسيج اللغوي. لكنه يرى أن الكثير من الشعراء الجدد يفتقدون هذا العمق الفكري، ما يجعل نتاجهم الشعري محدود التأثير.


التحولات بين التجربة والشك

يشير الكاتب علي جواد لـ "الصباح"، إلى أن شعراء الستينيات، مثل السياب والملائكة، لم يكونوا مجرد أفراد منعزلين، بل كانوا جزءًا من مشهد شعري عالمي متفاعل مع الحركات الأدبية والفكرية. لكن بعد عام 2003، مرّ الشعر العراقي بمرحلة مختلفة، حيث أصبح التساؤل حول معنى الشعر والتجربة والقيمة الفنية مسألة جدلية.

ويضيف: "لم يعد الشاعر يشك في موهبته فقط، بل أصبح يشك في قيمة ما يقدمه من شعر. هذه الحالة جعلت بعض الشعراء يميلون إلى الأسلوب المباشر والتعبير البسيط، في حين أن آخرين حاولوا التجريب في قوالب جديدة، لكن دون امتلاك وعي كافٍ بأسس التجديد الشعري".


التطور اللغوي وانعكاساته على الشعر

من ناحية أخرى، يرى أستاذ اللغة العربية في جامعة بغداد، محمد علي جبار، أن الشعراء المعاصرين ساهموا في إعادة تشكيل اللغة الشعرية، لكن ذلك لم يكن دائمًا بشكل إيجابي. ويوضح لـ "الصباح" قائلا: "في العقود السابقة، كان الشعر يتسم بالقوافي المحكمة والأوزان التقليدية، وكانت اللغة تستخدم بأسلوب معقد يعكس عمق الفكر الأدبي. أما اليوم، فقد شهدنا تحررًا في هذه القيود، حيث بات الشعراء يعتمدون على لغة أكثر مرونة، تعبيرًا عن أفكارهم ومشاعرهم بأسلوب يناسب التطورات المجتمعية".

لكنه يحذر من أن هذا التحول قد يؤدي أحيانًا إلى فقدان العمق اللغوي، خاصة مع توجه بعض الشعراء إلى الكتابة العفوية التي تفتقر إلى البنية الجمالية المتماسكة. ويرى أن منصات التواصل الاجتماعي لعبت دورًا مزدوجًا؛ فمن ناحية، ساعدت على نشر الشعر وجعلت التواصل بين الشعراء والجمهور أكثر سهولة، لكنها في الوقت ذاته أتاحت المجال لمن يفتقرون إلى الأدوات الشعرية لطرح نصوص لا ترتقي إلى المستوى الفني المطلوب.


بين الأصالة والتجديد

إن التحدي الحقيقي الذي يواجه الشعر العراقي اليوم لا يكمن فقط في الحفاظ على الإرث الشعري العريق، بل في القدرة على تطويره بما يتماشى مع التحولات الحديثة دون فقدان قيمته الفنية. فبينما يبقى بعض الشعراء متمسكين بالأوزان والقوافي التقليدية، يسعى آخرون إلى كسر هذه القيود بحثًا عن أشكال تعبيرية أكثر تحررًا.

في النهاية، يظل الشعر العراقي مكونًا أساسيًا من الهوية الثقافية للبلاد، وبينما يحتفظ بجذوره العريقة، فإنه يواجه اختبار الزمن في ظل عصر السرعة الرقمية. وبين الأصالة والتجديد، يبقى الحكم الأخير للجمهور والنقاد، الذين يميزون بين الشعر الأصيل والتجربة السطحية، في مشهد أدبي يواصل تطوره بلا توقف.