نزار عبد الستار
تشجّع العديد من خريجي ورش تعليم الكتابة ممن لهم أعمال روائيَّة أولى في دخول مجال التنظير الأدبي، ولم يكتف هؤلاء باستعراض تصورات جاهلة بل وصل تعديهم إلى الخوض في مسائل معقدة تخصُّ الفقه الروائي منها قضيَّة الراوي ومواقعه وأنواعه.
العديد من المتطفلين على الرواية أجمعوا في حواراتهم وتعليقاتهم الفيسبوكيَّة على أنَّ الراوي العليم هو الأسوأ بين الرُواة وأنَّه يمنعُ الشخصيات الروائيَّة من التعبير عن نفسها ويفرض قناعاتٍ تجعلُ العملَ الروائيَّ ضعيفَ التأثير ويفتقد إلى الشد. وذهب هؤلاء إلى أنَّ ضمير المتكلم هو الأسلم والأقدر على التعبير عن مكنونات الشخصيَّة وهو المحبذ بوصفه خطاباً مفهوماً وأداة سهلة.
إنَّ أهمَّ إنجازٍ قامت به الرواية العالميَّة منذ القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر هو تخليص الراوي العليم من تبعيته للمؤلف وإضفاء العلميَّة القياسيَّة على الروي، وهكذا تأسست الرواية الفنيَّة من خلال فصل النزعة الرومانسيَّة الوعظيَّة عن المبنى التعاضدي وتحكيم قواعد الحواس وتغليب المنطق.
فصلُ الراوي العليم عن مبالغات المؤلف أوجد القوانين الجديدة الحاكمة للرواية، وهو ما أنتج لنا أدباً مثالياً ضمَّ علوماً إنسانيَّة وتطبيقيَّة. إنَّ الانتقال من الذات المعبرة إلى الذات الأدبيَّة الخالقة العارفة ببواطن الشخصيات وسلوكها الخارجي أوجد العناصر الفنيَّة المتصلة بالمشهد والحدث والحبكة والحوار والشخصيات والتنامي والمحاكاة ومزجها في بناءٍ محكمٍ عميق الوعي وشديد العلميَّة، فأنتجت البشريَّة أعمالاً روائيَّة إعجازيَّة خلَّدت لنا السلوك الإنساني في أقدر محاكاة للحياة. من هنا ارتبط وجود الراوي العليم بفن الرواية وبات جوهراً لا مناصّ منه في الإبداع.
الراوي العليم فتح الباب لتيار الحداثة بانقلاباته التي تأسست على إنجازات علم النفس والفلسفة الوجوديَّة والعبثيَّة مستلهماً التراث التشاؤمي للبشريَّة وهذا النمو المنطقي أسهم في مواكبة التغييرات الحياتيَّة العنيفة ما بين الحربين العالميتين في القرن العشرين. لم تقص الحداثة الراوي العليم، وإنَّما عززته بمختبرات أخذت تنظر للإنسان المعاصر بوصفه كائناً مستلباً ومقهوراً.
على الجانب الآخر من القضيَّة يبرز الراوي المتكلم كنتاجٍ فني مستمدٍ من الرواية الرسائليَّة والرواية المخطوطة والمذكرات، وهذه أساليب فنيَّة انتشرت في مرحلة رواج الرسائل البريديَّة على نطاقٍ واسعٍ، وكذلك فن الخطابة الوعظي في الحملات الدينيَّة التبشيريَّة، لكنْ سرعان ما اضمحلّت هذه الأساليب وجرى تطوير مبنى الروي وفق تيار الحداثة فبرزت الرواية القصيرة وأدخلت تقنيات وضعت الضوابط المحكمة لهكذا نوعٍ من الروي مضيفة إليه ضمير الشخص الثالث وضمير المخاطب وتعدد الأصوات.
اليوم وسط موجة الاستسهال والتخبط والتعدي على فنّ الرواية يعتقدُ البعضُ من الذين فتحوا العالم بمئة نسخة من عملٍ خواطري أنَّ الراوي العليم سبة وأنَّ المتكلّم هو هذه البلادة التي تكتبُ التصورات الضحلة وتتحدث عن تجارب فجة، في حين إنَّ الحداثة أدخلت ضمير المتكلم وفق قواعد صارمة أهمها التقيد بوعي الشخصيَّة المتكلمة ومستوى فهمه ونواقص شخصيته وقياسات التجربة الناضجة مع القدرة العقليَّة المحكمة. أي أنَّ ضمير المتكلم لا ينفلت من المعيار الفني للرواية بل يكون أكثر قيداً من العليم ويعتمد التكنيك الصارم ولا يتخذ وسيلة للتعبير عن هواجس عارضة وتفوهات غير واعية.
الراوي العليم هو فنُّ الرواية في أسمى أشكاله ويتطلب مقدرة هائلة من الكاتب ودراية واسعة بعلوم السرد والبناء ومزج العناصر وهو الفارق الأساس بين الأدب والشخبطة، وكل ما نحن فيه من تشويهٍ ومآسٍ أدبيَّة مردُّه إلى ذلك المتطفل الذي يثرثرُ ويظنُّ نفسه روائياً.