علي حمود الحسن
لا يشبه فيلم والتر ساليس الأخير "أنا لا أزال هنا"، معظم الأفلام المشاركة في مسابقة أوسكار 2025، سواء من حيث الموضوع أو الأسلوب، ومع ذلك خطف جائزة أفضل فيلم دولي، ساليس الذي أخرج "المحطة المركزية"، و"راكب الدراجة" يتناول في "أنا لا أزال هنا" حقبة سبعينيات القرن الماضي، مصوراً سنوات الحكم الدكتاتوري في البرازيل وما صاحبها من مصادرة الحريات، تغيباً واعتقالاً واغتيالات استهدفت المعارضين السياسيين.
يحكي الفيلم قصة النائب اليساري السابق روبنز (سيلتون ميلو)، الذي اعتزل السياسة وانشغل بمشاريعه المعمارية، لكنه حافظ على تواصله السري مع رفاقه. تقتحم قوات الأمن منزله وتقتاده بعيدًا، ثم تعتقل زوجته يونيس (فرناندا توريس) وابنته اليانا (لويزا كوسوفسكي)، اللتين تخرجان بعد أيام، بينما يظل مصيره مجهولًا. تسعى يونيس لمعرفة الحقيقة، فتُصدم بخبر تصفيته. تنهار الأسرة، لكنها لا تستسلم، فتدرس يونيس القانون لتكرس حياتها لقضيتها. تحصل لاحقًا على شهادة وفاة زوجها رسميًا، ويحتفي بها أحفادها، رغم معاناتها من الزهايمر (أدّتها ببراعة فرناندا مونتينيغرو). في النهاية، ينشر ابنها مارسيلو (أنطونيو سابويا) كتابًا عن تاريخ الأسرة، الذي اعتمد عليه ساليس، صديق الأسرة، في كتابة سيناريو الفيلم.
يعتمد ساليس على بناء سردي خطي في قص وقائع فيلمه المقتبس من أحداث حقيقية، لكنه ليس سردًا تقليديًا، بل تدفق آسر للواقع بطريقة شعرية. تتداخل الشخصيات والأمكنة والزمان في حلبة واحدة، حيث ينعكس الخارج بأفراحه وأحزانه على تطور الشخصيات ضمن صرامة الزمن الذي لا يعود.
يكرّس ساليس افتتاحية فيلمه للجانب البهي لأسرة بايفا، عبر كوادر مشرقة وإضاءة ساطعة، حيث الاحتفالات والزيارات وأجواء السعادة، تتخللها إشارات خفيفة تنذر بالتحول، مثل طائرة هليكوبتر أو نظرات عابرة.
تُطوّق هذه البهجة بإيقاعات السامبا وأغاني بوب ديلان والموسيقى البرازيلية الفولكلورية، إلى جانب "فلاش باك" متنوع الوظائف، من استذكار الماضي إلى القفز للمستقبل. لكن هذا الاسترخاء لا يدوم، إذ يحدث تحول حاد باعتقال الأب وقتله، فتعمّ الفوضى ويحتل عسس السلطة المنزل.
تنتفض الأم وتكافح من أجل أسرتها وزوجها المغيّب، وتنجح دون أن تستسلم. وكعادته في اختيار ممثلين يؤدون بتلقائية، قدم ساليس ممثلة بارعة بدور الزوجة المكلومة، حتى لحظة تجسيدها في شيخوختها من قبل فرناندا مونتينيغرو، التي أضفت حضورًا
طاغيًا.
الفيلم، في نهاية المطاف، يستحق أكثر من أوسكار، إذ لم يكتفِ بتقديم دراما مؤثرة، بل أعاد محاكمة الدكتاتورية معنويًا، وهو ما قد يفسر الإقبال الجماهيري الكبير عليه في البرازيل، حيث شاهده
الملايين.