جواد علي كسار
بين أيدينا حزمة كبيرة من أحاديث النبي وأهل البيت تنهى عن ثقافة الثرثرة وهذر الكلام، وإطلاق الأقوال غير المسؤولة، مما بات ينتشر اليوم كثيراً في حياتنا، لاسيّما مع الابتذال الهائل في وسائل التواصل، والله سبحانه وتعإلى يقول في آيةٍ شديدة الدلالة على وضعنا: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق: 18).
يؤكد البحث التفسيري بالتواتر القطعي أو ما يشبه التواتر المعنوي على الأقلّ، أن مع الإنسان ملائكة ترافقه وتعيش معه. ففي حديث رواه السيد بن طاووس، أن عثمان بن عفان دخل على النبي، فقال: أخبرني عن العبد كم معه من مَلَك؟ فأجاب النبي: «مَلَك عن يمينك على حسناتك، وواحد على الشمال» والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
وفي كتاب «جوامع الجامع» التفسيري للطبرسي، عن النبي: «كانت الحسنات على يمين الرجل وكانت السيئات على شماله». وعن أبي أمامة عن النبي: "إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المخطئ أو المسيء، فإذا ندِم واستغفر منها ألقاها، وإلا كتب واحدة".
ما يُستظهر من هذه الأحاديث أنها تشير إلى «الرقيب العتيد» وأنهما ملكان يراقبان الإنسان في فعله وقوله وعمله، ويُحصيان عليه ما يصدر عنه. عن هذا المعنى النفيس يحدّث الإمام الصادق رجلاً، بقوله: "يا أبا النعمان لا يغررك الناس من نفسك، فإن الأمر يصل إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا فإن معك من يُحصي".
وعن دور الكلمة في تحديد المصائر، يروى عن النبي: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبيّن فيها، يزلّ بها إلى النار». وفي واقعة أخرى أن الصحابي معاذاً سأل النبي: «يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلّم به، فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم".
عثرتُ بتتبعي للأحاديث ذات الشأن بضبط اللسان، وتحمّل مسؤولية الأقوال، ما يمكن أن تُصرف مصاديقه حاضراً إلى وسائل الإعلام المخرّب، والتحليل الخاطئ عبر الفضاء، وما يصدر أحياناً من فتاوى في التكفير والتبديع؛ من ذلك ما عن النبي: "يعذّب الله اللسان بعذابٍ لا يُعذب به شيئاً من الجوارح، فيقول: أي ربّ عذبتني بعذابٍ لم تُعذّب به شيئاً، فيقال له: خرجت منك كلمة، فبلغت مشارق الأرض ومغاربها فسُفك بها الدم الحرام، وانتُهب بها المال الحرام، وانتُهك بها الفرج الحرام".
في حديثٍ آخر كأنه يشير إلى برامج البثّ المباشر وما تزخر به من ثرثرة، وكذلك وسائل التواصل التي يتحرّك المتحدّثون بها دون ضابط؛ إذ جاء الحديث بصيغة: "ليس لك أن تتكلم بما شئت، لأن الله عز وجلّ، يقول: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾".
أخيراً هذا أمير المؤمنين، قد مرّ برجل يتكلم بفضول الكلام، فوقف عليه، ثمّ قال: «إنك تُملي على حافظيك كتاباً إلى ربك، فتكلم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك». ليس هذا وحده، بل يرسم لنا أمير المؤمنين ميزاناً لثقافة الكلام وجغرافيته، في جملٍ قصيرة من ثلاثة حدود، هي: «إياك وفضول الكلام، فإنه يُظهر من عيوبك ما بطن، ويحرّك عليك من أعدائك ما سكن»، كما أيضاً: «إياك وكثرة الكلام، فإنه يُكثر الزلل، ويُورث الملل» وأخيراً قوله: «إذا تمّ العقل نقص الكلام».