واقع الدرس الفلسفي في العراق

ثقافة 2025/03/26
...

حازم رعد 


في حديثنا عن واقع الفلسفة في الواقع العراقي، نحاول أن نلفت أنظار ذوي العلاقة والسلطة إلى أهمية هذا المجال المعرفي المهم، الذي أسهم بل له الريادة في صنع حضارات الإنسانية في مختلف العصور والبلدان، فالفلسفة بتشعباتها المختلفة قدمت للإنسانية الأسس العامة والقواعد التي ترتكز عليها هياكل المدينة - الدولة والحضارة والبحث العلمي والتفكير المنطقي، إضافةً إلى كونها حقلاً معرفياً وعلمياً يثري ساحة المعرفة الإنسانية. 

ولعلنا لا نجانب الصواب لو أكدنا القول إن إخفاق الفلسفة في بلدنا لم يكن وليد الوضعية الراهنة، بل له جذور في أول تاريخ افتتاح قسم للفلسفة بكلية الآداب بجامعة بغداد عام 1953، إذ ترأس القسم شخصية فلسفية من لبنان، هو الدكتور البير نصري نادر، ولم يكن وحده بل إلى جانبه عدد من الأساتذة من خارج العراق ، فإن البداية كانت ضعيفة ( ولا أقول هذا الكلام للتقليل من شأن الدرس الفلسفي أو من المهتمين بالفلسفة عموماً)، وإنما أنوي القول إنه ليس ثمة اهتمام بالفلسفة، وهي من أهم الحقول المعرفية التي تنمي القدرات العقلية والبحثية والتحليلية والنقدية، وترفع من مناسيب الوعي وتخفض مناسيب العصبيات والتحيزات المختلفة. 

ولا يزال ضعف الدرس الفلسفي حالة شاخصة في الكثير من الجامعات العرقية، إذ الكثير منها ما زالت تفتقر لوجود قسم الفلسفة، وذلك نتيجة لعدم اهتمام سلطة التعليم بهذا الحقل المعرفي أولاً، أو لعدم إقبال الطلبة على القسم المذكور ، بل يكاد يكون الدرس الفلسفي في العراق مع فرض وجود أقسام الفلسفة في بعض الجامعات غير ذي جدوى، إلا من ناحية تعليم أبجديات الفلسفة التي هي مقررات تمليها الأكاديميات على الطلبة، من قبيل تاريخ الفلسفة اليونانية، ونشأة الفلسفة الإسلامية، والفكر الشرقي القديم وتاريخ فلسفة العصر الوسيط والحديث وعلم الكلام، مع محاضرات عن حقوق الإنسان وشيء من علم النفس، وإلا فإن الدرس الفلسفي كطريقة ومنهج عقلي يهدف إلى ممازجة الفكر بالواقع، والنظر بالعمل، وجعل الفلسفة نشاطا حقيقيا يتاخم سلوكيات الأفراد ويحرك أدواتهم وآلياتهم الفكرية والنقدية فهذا غير موجود أساساً ، لأن ما موجود من مناهج وطرق تدريس وتدريسيين، في الغالب طبعاً، وليس على نحو السالبة الكلية كما يعبر المناطقة، إن تلك المناهج تعبر عن حاجة أكاديمية فقط ولا تضع المجتمع وتطلعات الناس وتطور المجتمعات نصب أعينها، فالناس في واد والدرس الفلسفي الأكاديمي في واد آخر ، وإذا أردنا أن نشهد أهل الدار فما علينا إلا أن نستحضر رأي أحد أهم أساتذه الفلسفة في العراق وهو الدكتور إبراهيم العلاف، الذي يقول في كتابه محاضرات في تاريخ الفكر الفلسفي العربي المعاصر ما نصه: "إن الحركة الفلسفية العراقية في وقتنا الحالي بل الدرس الفلسفي العراقي، أضعف بكثير مما هو عليه في بعض الدول العربية كمصر ولبنان والمغرب العربي ، إن الدرس الفلسفي في العراق لا يزال أفقر أنماط الثقافة العراقية للأسف، وليس ثمة اهتمام بالفلسفة لا في التعليم ولا في الصحافة ولا في الشعر ولا في التاريخ).

وإذا حصل اهتمام بمجال الفلسفة فإنه يكرس لتقديم خدمة للأيديولوجيا التي تتناسب مع فاهمة الأستاذ أو واضعي المناهج، فالديني أو العلماني يأخذ من الفلسفة تلك المقاربات والتنظيرات التي تخدم أفكاره وتلبي جهويته وتخدم تطلعات الأيديولوجيا التي يعتقد بها وينتسب إليها، وهنا يضيع الدرس الفلسفي ولا يؤتي أكله ولا يعطى حقه، كما هو في حاضرات أخرى، وإذا ما شئنا إثبات صحة هذه الدعوة، فلا نحتاج إلى كثير من العناء، إذ ننظر فقط إلى الوجود الأكاديمي الفلسفي في المحافل العامة خارج الأسوار الأكاديمية، الذي نجده شبه منحسر، فليس هناك الكثير من الندوات والملتقيات والجلسات التي تهتم بالفلسفة وقضاياها وتحتك بعامة الناس، وكذلك ليس هناك تماس بين المشتغلين بالفلسفة وبين السلطة، إذ كما هو معلوم فإن الفلسفة لا أقل في الجزء "السياسي" منها تهتم بوضع الفروض والاحتمالات وتقديم المشورات للسلطة، وهذا معمول به في الجغرافيات والديمقراطيات العريقة والمتحضرة، إذ هناك شخصيات فلسفية وخبراء ومراكز دراسات ومؤسسات بحثية فلسفية وفكرية تقدم الاستشارات إلى الحكومات والدولة، أما في العراق فذلك غير متوفر على الإطلاق، وقد يكون السبب في الوضعيات الأكاديمية التي قد تكون ليست بالمستوى الذي يجعلها محل اعتبار السلطة، أو أنها تعتمد مناهج قديمة ولم تطلع على واقع الفلسفة الجديد وما وصلت إليه في البلدان الأخرى، فالفلاسفة في ألمانيا وأمريكا وكندا وغيرها من الدول لهم تمام الاهتمام والرعاية من قبل الحكومات، وكذلك يعتمد على مشوراتهم وتوصياتهم بشكل واضح وتفتح لهم مساحة من الاهتمام، وهذا بحد ذاته يشكل حافزا للنشاط الفكري وابتكار طرق ووسائل ومنهجيات لنشر الوعي والعقلانية والاندماج، بدل اعتزال الواقع والمجتمع، وكذلك فإن المراكز البحثية في أوروبا عموما وأمريكا على وجه التحديد وحتى في بعض البلدان العربية، تحظى برعاية واهتمام كبيرين، ولها كلمةً مسموعة، وللآراء التي تطرح فيها أذن تصغي، على أمل الإفادة والتطوير . 

أو إن السبب يكمن في السلطة نفسها، كما لو كانت لا تهتم بالعلماء والمفكرين، أو كانت مستبدة تحتكر الحقيقة والرؤية، أو هي حكومات تعمل بالأهواء والميول، والأسباب تتعدد وتكثر بحسب البيئات والتوجهات التي ترسم ملامح هذا المجتمع، ولا يمكن حصرها في عامل واحد .