د. نادية هناوي
الشعر قولٌ مبتكرٌ من جرّاء التفكير المتخيل في اللغة، تنتجه الموهبة المدربة بالمران والخبرة والمشذبة بالوعي والتجربة. والشعر على اختلاف صنوفه ينهض على أساس هذه القاعدة سواء على مستوى الاتساق الإيقاعي أو مستوى التلازم الدلالي؛ فالشعر في الأساس قول متخيل يخرق المألوف. ولا يكفي القصيدة التخييل وحده لإتمام عملية الخرق، بل لا بد من تقانات بعينها تجعل عملية الخرق طبيعية على مستوى اللغة الشعرية، وطبيعية أيضا على مستوى اللغة العقلية. وفي هذا مفارقة لا يصنعها الانزياح عن المألوف وحده، بل لا بد من الارتكان إلى المفارقة في الانزياح. ما يجعل الصدمة واحدة من سمات القصيدة المفكِّرة فهي تثوِّر الفكر بالتفكير المتخيل وتصنع من الشعرية أطروحة فكرية. ومن هنا نفهم لمَ احتاج الفلاسفة الى الشعر، ولمَ وجدوا فيه بغيتهم فتأملوه ونقدوه وقعدوه.
وإذ يرفض أفلاطون الشعر فلالتزامه بنهج سقراط الأخلاقي ومنظوره المثالي للحياة التي يفيدها شعر لا يخرق المألوف إلا من أجل غايات سامية. وخالفهما أرسطو بمنظوره الفني فقعَّد صيغ التخييل، وقدَّم الشعر على التاريخ، وجعل الشاعر في مصاف الفيلسوف. وحدد أجناس الأدب بالشعر الغنائي والشعر الملحمي والدراما. وعلى الرغم من أن الجزء الخاص بالشعر الغنائي من كتاب ( فن الشعر) لم يصل إلينا، فإن ما قعده أرسطو من مسائل خاصة بالملاحم والمسرحيات، تعطي تصورا للطبيعة العمومية التي يمكن للشعر الغنائي أن يكونها. فمثلا وجد أرسطو في الشعر المسرحي موضوعية، فيها يجانب الشاعر ذاته فلا يعبر عنها بل يتخصص في الإنابة عن شخصياته مفكرا بدلا منها ومعبرا عن دواخلها. وهذا جذر يمكن للشعر الغنائي أن يمتح منه فتكون القصيدة من ثم (فكرية) تبني أسسها على ما للشعر المسرحي من مواضعات وقواعد. وقد يمدها ذلك بالطاقة فتمتد وتمتد حتى تصبح مطولة شعرية.
وهذا ما يجعل شاعر القصيدة المفكرة منتجا للأفكار، وقد يبز بها الفيلسوف نفسه من ناحيتي الإيقاع واللغة وقوة التوليف، ومن ثم لا تخرج القصيدة عن جنسها الغنائي بل تبقى منطوقة بالسليقة. وهذا ما يحفز الفيلسوف نفسه على الإفادة من هذا النوع من الشعر الغنائي وهو بصدد الجدل في ما هو فيزيقي وميتافيزيقي، متمثلا بالشعر ومتفكرا في متخيلاته.
صحيح أن لغة المنطق تفصل المدرك الحسي عن المدرك الروحي، وأن لغة الشعر تجمع هذين المدركين، بيد أن ما تفعله القصيدة المفكِّرة أنها تجمع اللغتين؛ لغة الشعر ولغة المنطق في بوتقتها، فتتدفق الإحساسات الجمالية والمحسنات البلاغية والإنتاجات الرمزية متجهة صوب كل ما هو ضدي واختلافي. وغايتها من ذلك كله الإقناع والتعقل والاعتدال. وبهذا فقط يلامس الشعر الغنائي جوهر الفلسفة التي من مهامها (إنتاج أقوال ملغزة تكون قابلة لأن تبهر أقوالا ملغزة أخرى) كما يقول كريستيان دوميه.
وقد يخيَّل إلى كثيرين أن الشعر والفلسفة على طرفي نقيض، أو أن الحكمة في قول الشعر تأتي بعيدا عن أي وازع بالجنون؛ وهذا ما تفنِّده القصيدة المفكِرة التي فيها الحكمة والجنون وجهان لعملة واحدة. إذ ما دام ( يوجد في الحب شيء من الجنون، كذلك يوجد في الجنون دوما شيء من العقل) كما يقول نيتشه الذي سُئل: لم تكتب؟ فأجاب: أن أكتب يعني أن أتخلص من أفكاري. ولا يكون التخلص من الأفكار بالفلسفة وحدها، إنما يمكن أيضا بالشعر حين يتخذ الشاعر من العقل طريقا لابتداع الرموز.
لا غرابة إذن في أن تكون الفواصل بين الشعر والفلسفة واهية، ولا يرى هذه الفواصل سوى من اقتنع بأن الشعر عواطف فحسب، وأنه مكاشفات وأحاسيس بلا رموز ولا ألغاز. وإذا عددنا اللغة نهرا يغترف منه الشاعر ما يستطيع كي يطفئ ظمأ التعرف إلى الحقيقة، فإن اغترافه سيتخذ واحدا من سبيلين: السبيل الأول يعتمد العاطفة والاستدراج الذاتي لها رويدا رويدا أو الإتيان إليها والاقتران بها مباشرة. والسبيل الثاني يعتمد العقل والتعامل الفني الموضوعي مع الصياغات، فيغدو الاغتراف من كل جزئية شعرية بمثابة حيز مفكَر فيه بقصد الإحاطة به واستيعابه.
وعادة ما يميل الشعر الغنائي بالعموم إلى ارتياد السبيل الأول، في حين يرتاد الشعر المسرحي السبيل الثاني. لكن ذلك لا يعني أن ليس ثمة استثناءات لا نعدم معها وجود شعر غنائي يسلك السبيلين معا أو يكتفي بسلوك السبيل الثاني - سبيل التفكير والترميز- تبعا لقدرات الشاعر ومؤهلاته في الاغتراف من نهر اللغة. والمتحقق من هذا السبيل الأخير شعر استثنائي، فيه الشاعر مفكِّر والقصيدة مفكِّرة، تغلب فيها العقلانية على الوجدانية، ويكون اللوغوس حاكما على الهوى، وتتراجع الأنا المتكلمة أمام الأنا المفكرة، وتتحول الذاتية إلى غيرية، والأحادية إلى حوارية، وبأساليب وتقانات مختلفة مثل البوح الداخلي والنداءات والتساؤلات وما إلى ذلك.
وتقدر قصيدة الشطرين والتفعيلة ومعهما قصيدة النثر على تحقيق ذاك كله. وما احتكام القصيدة الغنائية إلى العقل سوى مؤشر على نشوء علاقة حميمة بين الفكر والشعر على مستوى المبنى الكلي للقصيدة، ومستوى المباني الجزئية، كالمقطوعة والبيت من الشعر وجزء من البيت، ومستوى نظم الأوزان والقوافي. وما تلازم الفكر والشعر سوى دليل على السير نحو الترميز، الأمر الذي يتطلب إدراكا خاصا لـ (كنه) اللغة.
وهذا ما يجعل من الشاعر فيلسوفا، فهو لا يرتكن إلى الصمت وهو يفكر، وقد يصنع الأفكار من جراء الارتكان إلى الصمت، كما أن للشاعر -الذي مسلكه عقلي - ميزة أخرى تتمثل في استنفاره لحواسه، فتكون قصيدته مشتملة على البعدين: الذاتي والموضوعي جنبا إلى جنب؛ الفكري والفني. ومن هنا اهتم الفلاسفة بالشعر بعد أن وجدوا فيه طريقا من طرق البحث عن الحقيقة. وهل كان لأرسطو أن يساوي الشعر بالفلسفة ويقدمهما على التاريخ إلا لأنهما يتناولان الكليات، ولا يعنيان بالجزئيات؟!.
ولقد كان نيتشه شاعرا قبل أن يصير فيلسوفا، يدرك إدراكا عميقا أن عقلانية الشعر هي التي تجعل التوافق قائما بين ( الهواء العليل والصافي والخطر المحدق والفكر الممتلئ بالأذى المغبط) .