جدليَّة التمثيل وإعادة التشكيل

ثقافة 2025/03/26
...

 أمجد نجم الزيدي

يرتبط مفهوم الأيقونية الأدبيَّة (Literary Iconology) بإشكاليَّة نقدية تتجاوز التصنيف التقليدي للعلاقة بين الصورة والنص، لتكشف عن عمق التفاعل بين التمثيلات البصريَّة والبنية الخطابيَّة للنصوص الأدبيَّة، هذا التفاعل ليس مجرد تقاطع بين وسائط تعبيرية مختلفة، بل هو فضاء مشحون بإرث إيديولوجي ومعرفي يعيد إنتاج الوعي ويعيد تشكيل أفق القراءة والتأويل، وفي هذا المنحى، يتصدى الأكاديمي الأميركي ويليام ميتشل في كتابه (الأيقونية: الصورة، النص، الأيديولوجيا Iconology: Image, Text, Ideology) لمحاولة تفكيك الحدود الفاصلة بين الكلمة والصورة، معتبراً أنها ليست مجرد تمايزات شكلية، بل انعكاسات لبنى فكرية عميقة تتجذر في سياقات ثقافيَّة متغيرة، فهو يرى أن الصورة والنص لا يعملان ككيانين منفصلين، بل يتداخلان في علاقة معقدة حيث تتماهى الدلالة البصريَّة مع البناء السردي، مما يجعل الأيقونات الأدبيَّة أكثر من مجرد رموز متكررة، بل وسائط فاعلة تعكس تحولات الفكر وتعيد صياغة التمثيلات الثقافيَّة.


 لذا لا تنحصر الأيقونات الأدبيَّة في بعدها الجمالي أو الرمزي، بل تمتد لتغدو شفرات دلالية تكشف عن التوترات التي تحكم العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين الذاكرة والتاريخ، وبين الخطاب والواقع، فالصور الأدبيَّة، بما تحمله من ترميز متغير، لا تعكس الواقع بقدر ما تعيد إنتاجه وفق أنساق دلالية تتبدل بتبدل الأزمنة والسياقات، هذه الرؤية تجد امتدادها في مقاربة البروفسيور الأميركي جورج بي. لاندو في كتابه (صور الأزمة: الأيقونية الأدبيَّة من 1750 إلى الزمن الحاضرImages of Crisis: Literary Iconology, 1750 to the Present)، حيث يسعى إلى تحليل كيفية تحوّل الأيقونات الأدبيَّة للأزمات إلى مفاتيح لفهم التحولات الكبرى التي تعصف بالأنساق الفكرية والرمزية، يرى لاندو أن الأيقونات ليست كائنات ثابتة أو كيانات مغلقة على دلالة محددة، بل هي ظواهر متغيرة تخضع لإعادة تشكيل مستمرة بفعل البنية الثقافيَّة والتاريخية التي تتفاعل داخلها.

يتقاطع هذا الطرح مع رؤية ميتشل التي ترفض التعامل مع العلاقة بين الصورة والنص بوصفها علاقة انعكاسية، لتؤكد بدلاً من ذلك على كونها علاقة إنتاج متبادل، حيث لا تُستدعى الصور في النصوص الأدبيَّة بوصفها علامات مستقرة، بل باعتبارها وحدات دلالية تعيش تحولات دائمة، تتفتت وتُعاد صياغتها ضمن آليات السرد وأفق التلقي، بهذا المعنى، تصبح الأيقونات الأدبيَّة أكثر من مجرد استدعاءات رمزية، إذ تتحول إلى أدوات لزعزعة اليقينيات وإعادة تشكيل الإدراك الجمالي والمعرفي، حيث لا تكتفي بتوثيق التحولات الثقافيَّة، بل تساهم في صناعتها وتأطير مساراتها.

يمثل مفهوم الأيقونية الأدبيَّة في كتاب جورج بي. لاندو محاولة منهجية لاستكشاف الطريقة التي تتجلى بها الأفكار الثقافيَّة والاجتماعية في الأدب والفن عبر الصور والرموز التي تتكرر وتتحول عبر العصور، يرى لاندو أن هذه الأيقونات لا تقتصر على كونها مجرد وسائل تعبيرية، بل إنها تشكل منظومة دلالية معقدة تعكس تحولات الفكر الإنساني، بحيث تصبح النصوص الأدبيَّة فضاءً فاعلاً تتفاعل فيه الصور الرمزية مع البُنى الاجتماعية والتاريخية التي أنتجتها، لذلك فإن الأيقونات الأدبيَّة ليست مجرد عناصر جمالية، بل هي أدوات إيديولوجية تكشف عن التوترات التي تحكم العلاقة بين الذات والمجتمع، وبين الذاكرة والتاريخ، وبين الخطاب الفني والواقع المادي.

يؤسس لاندو تحليله على افتراض أن الأدب والفن لا يعكسان الواقع بطريقة مباشرة، بل يعيدان تشكيله عبر وسائط رمزية تحمل معاني متغيرة وفقاً للسياق الثقافي الذي تُوظَّف فيه، ففي تحليله للصور الأدبيَّة للأزمات، يبين كيف أن بعض الأيقونات التي كانت في الأصل دينية أو ميثولوجية قد خضعت لتحولات دلالية جعلتها تعكس أزمات الحداثة وانهيار اليقينيات الكبرى، حيث يشير، على سبيل المثال، إلى أن رحلة أوليسيس، التي كانت في التراث الكلاسيكي تجسيداً لمفهوم الرحلة البطولية، قد تحولت في الأدب الحديث إلى رمز للضياع والتيه واللايقين، كما هو الحال في أعمال جيمس جويس وصامويل بيكيت، هذا التحول يعكس، وفقاً للاندو، التغير العميق في رؤية الإنسان لموقعه في العالم، حيث لم تعد الرحلة مجرد مسار نحو تحقيق الذات، بل أصبحت تعبيراً عن فقدان المعنى وتشتت الهوية في عالم متشظٍّ.

 ينبني المفهوم الذي يقدمه لاندو للأيقونية الأدبيَّة على فكرة أن الرموز لا تظل ثابتة في دلالاتها، بل إنها تتعرض لإعادة تشكيل مستمرة تبعاً للتحولات الثقافيَّة والسياسية، فالعديد من الرموز الدينية في المسيحية أو اليهودية قد فقدت في الأدب الحديث طابعها المقدس وأصبحت علامات تحمل ربما رمزية مختلفة إن لم تكن مناقضة، هذا التغير يبرز في الأدب الذي يعكس أزمة الحداثة وما بعدها، حيث يتعامل مع الرموز التقليدية بطريقة ساخرة أو مفككة، مما يعكس رؤية متشائمة لعلاقة الإنسان بالعالم، لذا فإن لاندو لا يتعامل مع الأيقونات باعتبارها مجرد عناصر شكلية، بل يراها أدوات لاستكشاف بنية الخطاب الثقافي والأنماط السردية التي تسعى إلى إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والتاريخ.

 وعلى الرغم من أهمية هذا الرأي، إلا أني أجد أن لاندو يميل إلى تعميم مفهوم الأيقونة الأدبيَّة ليشمل أي صورة رمزية تتكرر في الأدب، مما قد يؤدي إلى تمييع المفهوم بحيث يصبح غير محدد بدقة، فبينما يعتبر بعض النقاد أن الأيقونة الأدبيَّة يجب أن تكون صورة ذات استمرارية ثقافيَّة واضحة، يبدو أن لاندو يتعامل مع أي تحول رمزي باعتباره أيقونة، حتى لو كان هذا التحول مجرد توظيف أسلوبي خاص بعمل معين دون أن يمتلك بعداً ثقافياً متجذراً.

وبالإضافة إلى ذلك فإن اعتماده على التأويل الرمزي قد يجعله أحياناً يتجاهل الأبعاد السردية والبنيوية للنصوص التي يحللها، حيث يركز على الدلالة الأيقونية للصورة أكثر من علاقتها بالبنية الكلية للعمل الأدبي، هذا قد يؤدي إلى قراءة تأويلية مفرطة تعزل الرمز عن سياقه النصي وتتعامل معه ككيان مستقل يحمل معانيه الذاتية دون النظر إلى كيفية اندماجه في الخطاب السردي واللغوي للنص.

هذه الإشكاليَّة تجد صداها في انتقادات أمبرتو إيكو لمفهوم "التأويل المفرط"، حيث يرى أن تجاوز حدود التأويل قد يؤدي إلى انفصال العلامات عن بنيتها الأصلية، مما يسمح بقراءات تتجاوز النص ذاته وتفترض أنه يمكن أن يعني أي شيء، حيث يؤكد إيكو أن هناك ما أسماه بـ (قصد العمل intention operis) يفرض قيوداً على نطاق التأويل المشروع، بحيث لا يصبح النص مجرد فضاء مفتوح للتلاعب الدلالي، لذا يمكن القول إن مقاربة لاندو قد تنزلق نحو التأويل غير المنضبط، حيث يؤدي التوسع المفرط في التأويل الرمزي إلى فقدان الدقة النقدية وإضعاف العلاقة العضوية بين الرمز وسياقه السردي.

يشكل تحليل لاندو للأيقونية الأدبيَّة مساهمة مهمة في الدراسات الثقافيَّة والنقد الأدبي، حيث يقدم منظوراً يُبرز التفاعل بين الرموز الأدبيَّة والتحولات التاريخية التي تشكل دلالاتها، إلا أن هذه المقاربة تظل بحاجة إلى موازنة بين التحليل الرمزي والنظر في البُنى السردية، حتى لا ينحصر الفهم في البعد التأويلي الصرف دون الأخذ في الاعتبار العناصر الفنية التي تساهم في بناء الدلالة داخل النصوص الأدبيَّة.