* د. هاني عاشور
لم يعد مفهوم سيادة الدولة هو ذلك المفهوم، الذي اقرّه ميثاق الامم المتحدة عام 1945 عند تأسيسها، ليكون معبرا عن فحوى المصطلح المعتمد، فقد تغير المفهوم وفق منطق القوة الجديدة والقطبية الدولية أحادية أو ثنائية، بل أصبح تغير المصطلح أكثر بشاعة، عندما أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تمثل القطب الأوحد في العالم.
ولم تعد الاوطان ذات سيادة واحدة بالمفهوم الحقيقي، بل تداخلت السيادات حربا أو اتفاقات تحت الضغط والتهديد، فاذا كان الغرب مثلا يرى أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا خرق لسيادة الدولة الأوكرانية، فإن ضغط ترامب لإجبار أوكرانيا أن توقّع اتفاقية المعادن بقيمة 500 مليار دولار، هو خرق للسيادة وحرمان دولة من استثمار ثرواتها وحق سيادتها. وعندما يتحدث ترامب عن جعل كندا ولاية تابعة لأمريكا، فإنه خرق لسيادة دولة معترف بها وعضو مهم في الامم المتحدة، وكذلك التهديدات ضد بنما والمكسيك. وعندما تتعمد اسرائيل قصف سوريا بشكل شبه يومي واحتلال ارض منها، فهو عدوان وانتهاك لسيادة دولة، وكذلك ما تقوم به اسرائيل من ضرب لبنان يوميا وقصف جنوبه وقتل ابناء شعبه، فإن ذلك عدوان ضد سيادة دولة تتحجج فيه اسرائيل بذرائع واهية رغم وجود اتفاق لوقف اطلاق النار. يوما بعد آخر يتغير مفهوم السيادة، فمنذ اتفاقية أوسلو عام 1993، اعترف العالم بسلطة فلسطينية منقوصة السيادة على جزء من اراضيها، ولم يكن حتى مفهوم السلطة ذاتها يحمل معناه الحقيقي. فالقوات الاسرائيلية تجوب كل يوم شوارع ما تسميها تحت السلطة الفلسطينية وترتكب الاعمال الوحشية ضد المواطنين الفلسطينيين. حتى الآن يبدو العالم أمام أشكال جديدة لمفهوم السيادة، فمنذ مجيء ترامب للبيت الأبيض، سارعت دول إلى تقديم العروض المالية الكبرى، التي تتجاوز تريليون دولار، خشية من اغضاب ترامب ومحاولة لاستمرار وجودها، تحت عنوان حق التصرف بثرواتها واستثمارها خارج بلدانها، غير أن الأمر الحقيقي هو لجوء هذه الدول لإضعاف سيادتها والتصرف بحقها في ثرواتها وضمان حق شعوبها، فكانت تحت ضغوط اتفاقات انتقاص السيادة رغم تغير المعنى في ظل مصطلحات جديدة، يتم ترويجها ولكنها في ظل أوضاع خضوع السيادة لضغوط خارجية كبرى. وعندما تنتشر القواعد الامريكية في نحو ثلث العالم، بأكثر من ثمانين قاعدة، فإن ذلك يبرر معنى نقص السيادة بالاتفاقات الثنائية الدفاعية. وهكذا اصبحنا امام مفاهيم جديدة للسيادة لم يكن العالم قد تبناها، حين شرعن مصطلح سيادة الدول في ظل ميثاق الامم المتحدة، وهكذا تحولت فكرة الحروب والاحتلالات من مفهومها العسكري إلى مفاهيم احتلالات اقتصادية، تسلب حق الدول والشعوب في ثرواتها، أو خضوع تلك الدول إلى اتفاقيات دفاع بشكل سيطرة اجنبية تحت عناوين مختلفة، كما هو الحال في الوجود التركي في سوريا أو ليبيا، حيث تحول مفهوم السيادة إلى المساعدة للحافظ على أمن الدول، وهو عنوان أربك مصطلح السيادة بمعناه الدال عليه، قياسا بالمدلول. إن أهم ما حدث في عالمنا خلال أكثر من نصف قرن أن سقوط المفاهيم الحقيقية وإشباعها بانحرافات مقصودة أصبح جزءا من السياسة الدولية، وأصبحت الامم المتحدة التي كانت تدافع عن سيادة الدول إلى كيان صامت غير قادر على استيعاب ما يجري، فأصبح كل ما تملكه من ارادة هو مجاراة ما يجري، فاصبح العالم يعيش طيش المفاهيم ويفقد يوما بعد آخر فقدان دول لسيادتها، تحت عناوين جديدة لا تصلح ان تكون تعبيرا عن ارادة السيادة والحرية وحق الشعوب في تقرير المصير.