العجزُ السياسي وستراتيجيات الإدارة

آراء 2019/07/09
...

علي حسن الفواز
إدارة السياسة أكثر خطورة من السياسة ذاتها، إذ تتطلب هذه الإدارة وعياً عالياً بالمسؤوليات، ومعرفة عميقة بسياقات العمل، وديناميَّة فعالياته على المستوى الستراتيجي، أو على المستوى الإجرائي، وكلا المستويين يتطلبان شروطاً تفيد من التخطيط والتنظيم والتمكين، مثلما يتطلبان البيئة المناسبة قانونياً واقتصادياً ولوجتسياً، أي ما يخص عمل الكفاءات والعوامل الفنيَّة الساندة لها..
مقاربة المشهد السياسي العراقي تكشف عن كثيرٍ من المشكلات والعقد، وعن تاريخ طويل من الأزمات، لا سيما ما يخصّ علاقة السياسة بالحكم، والإدارة، والتخصص، أو حتى علاقتها بالايديولوجيا والعسكرة، وبكلِّ المركزيات التي فرضت نفسها بالقوة على الواقع العراقي منذ العام 1963 ولغاية 2003، وحتى في المرحلة اللاحقة والتي تحوّل فيها مشروع بناء الدولة الوطنية الى مشكلة بنيويَّة، ترتبط بهوية هذه الدولة، وهل هي دولة دينيَّة، أم دولة مدنيَّة؟ وأيضاً بطبيعة القوى السياسية الحاكمة، وهل قوى حزبية أم جماعاتية أم طائفية؟
هذه التساؤلات وضعت مشروع الدولة أمام محنة إدارتها، والتي للأسف لم تكن بمستوى الوعي باستحقاقاتها، وبشروط تحولها الى (دولة واقعيَّة) لها هويتها وخطابها واستقلالها بعيداً عن المحاور، وعن الأجندات، وعن الطبيعة المعقدة للصراعات السياسية الدولية والإقليمية، وحتى الداخلية. وبقطع النظر عن السياق الديمقراطي الذي تتحرك فيه الدينامية السياسية، إلّا أنّ إداراتها لم تغادر الطابع المحاصصاتي الذي حكمها منذ العام 2003 والى الآن، والذي تحوّل للأسف الى ممارسة قارّة لها مؤسساتها، وإطارها المكفول من قبل الجماعات السياسية داخل مجلس النواب، أي أنَّ هناك غطاءً (تشريعياً) لهذه المحاصصة..
 
الإدارة بوصفها مسؤولية مهنية
فهم الإدارة على أنها ممارسة مهنية أولاً، وعلمية ثانياً، ومعيارية ثالثاً سيخفف كثيراً من التداول التوصيفي لها، وهذا ما يعطي تعالق الإدارة مع القدرات البشرية ضرورتها لبيان أهلية الفاعلية فيها، وعلى وفق الشروط والسياقات والآليات التي تحدد سياقات العمل داخل المؤسسة 
السياسية. ما يتبدى واضحاً في المشهد العراقي السياسي الغياب الواضح لمهنية الممارسة، وخضوعها بنسبة كبيرة لعشوائية المحاصصة، وللمغانم الحزبية والجماعاتية والطائفية، وهذا ما يجعل إدارة السياسة ضعيفة، وفاقدة لفاعلية التطور، والتنمية، وللتعاطي مع أية آفاق ستراتيجية لمستقبل بناء الدولة ومؤسساتها، فمجلس النواب هو تمثيل تحاصصي للجماعات العراقية، وهو ما ينعكس على مسؤولياته في الرقابة وفي إقرار مشاريع بناء الدولة، وفي إدارة وتأطير السياسة، وفي كفالة مشاريعها بالقوانين والممارسات الدستورية الحمائية، كما أنّ مؤسسة الحكومة تواجه ذات التحدي، وتخضع لكثير من مركزية المحاصصة، على مستوى تصعيب العمل على رئيس الوزراء وفريقه الحكومي
، أو على مستوى مواجهة الفساد والرثاثة في البنية المؤسسية لأجهزة الدولة، وأحسبُ أنَّ تعطيل إكمال الحكومة العراقية لأكثر من سنة دليلٌ على الطابع الصراعي الضاغط على إدارة العمل الحكومي، وللاتفاق التشريعي على اختيار الشخصيات المناسبة لهذه الإدارة
، وهذا ما ينعكس على عمل الاجهزة التنفيذية والتشريعية في المحافظات، والتي تحولت الى مجال مفتوح لصراع المصالح والأجندات، وللفساد الذي أسهم في تعطيل شبه كامل للخدمات الوطنية في تلك المحافظات، رغم أنَّ ميزانية الدولة تعادل أكثر من ميزانيات ثلاث دول في
 المنطقة.. هذا الفشل الإداري سيكون أكثر حرجاً مع اختيار الدرجات الخاصة، وهو أمرٌ مثار جدل، وخلاف بشأن توزيع الحصص، والكيفية التي تتم بها الموازنة فيها بين الشروط الفنية والشروط الحزبية والجماعاتية الضاغطة، رغم أنَّ توصيف هذه الدرجات يرتبطُ بإدارة مؤسسات فنية وعلمية
، وهو ما يعني حاجتها أولاً وآخراً الى كفاءات علمية وبخبرات تكفل نجاحها وديمومتها، بقطع النظر عن المرجعيات الحزبية والطائفية والقومية لهذه 
الكفاءات..
الحوكمة وسلطة الإدارة
إذا كانت الحوكمة تعني (تدعيم مراقبة نشاط المؤسسة ومتابعة مستوى أداء القائمين عليها) كما تقول المعاجم، فإنَّ ذلك يعني وجود إدارة متسقة
، وفاعلة، وقوانين كافلة في بيئة سياسية واقتصادية وأمنية تتعزز فيها مسارات دينامية بناء مشروع الدولة وحمايتها، وهو ما ينبغي العمل على تأمينه في إدارة الدولة العراقية
، لأنَّ الحوكمة تعني في أبسط شروطها الرقابة على المال العام، وعلى تأطير هذه الرقابة وفق القوانين النافذة
، فضلاً عن وجود التقانات والكفاءات التي تملك القدرات والطاقات على النهوض بها
، وعلى تسنم المسؤوليات في مؤسساتها، أي ربط تلك الكفاءة بالعلمية والمهنية، وبالجدوى في توظيف المدخلات الوطنية لصالح 
التنمية. ضعف الإدارة في مؤسساتنا الوطنية - الاقتصادية والسياسية- يرتبط بشكلٍ أو بآخر بضعف الخيارات الإدارية للوزارات ولمؤسساتها
، ولربط هذه الخيارات ببرنامج حكومي واضح بآلياته وبسقوفه الزمنية
، وبحوكمته الناظمة لمسارات تنفيذ البرامج والمشاريع، ولمتابعة حركة رأس المال عبر معرفة مصادره، والآليات التي يتم الصرف فيها، لقطع الطريق على الفاسدين
، وسد كل الثغرات التي يمارسون من خلالها 
فسادهم..