ذكرٌ مُحدَث

منصة 2025/03/26
...

جواد علي كسار

ما أكثر اختلافات المسلمين في المعرفة الدينية وما أشدّ نزاعهم فيها، ومن بين ذلك صفات الله سبحانه الثبوتية التي يتصف بها والسلبية التي يتنزّه عنها، وما أُثير في ثنايا ذلك من اختلاف عن الكلام الإلهي وهل هو قديم أم مُحدث، وعن القرآن نفسه وفيما إذا كان قديماً أم مخلوقاً ؟.

المفروض أن لكلّ علم مرجعيته، ومرجعية العلم الديني هي إلى النبي وعترته وولاة أمره من بعده، فهم «أهل الذكر» الذين أمر الله بسؤالهم: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43) إذ جاء في الحديث أن اهل الذكر، هم: «آل محمد». 

لذلك قال الإمام أمير المؤمنين: «فليذهب الناس حيث شاؤوا، فواالله ليس الأمر إلا من ههنا» وأشار إلى بيته؛ وقال حفيده الإمام الباقر مخاطباً اثنين من الرجال عن مرجعية العلم الديني: "شرّقا وغربا، فلا تجدان علماً صحيحاً إلا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت".

هكذا جاءت مشاركاتهم في المعرفة الدينية لتحسم النزاعات التي نشبت بين المسلمين، في قضايا عديدة على مستوى التوحيد والصفات والأسماء، وفي نسبة الفعل الإنساني بين الله والإنسان، وكذلك كانت لهم رؤيتهم في القضية الصراعية التي نشبت بين المسلمين حول القرآن بفعل السلطة، وكانت تدور عن كلام الله في كتابه وفيما إذا كان مُحدثاً مخلوقاً أم قديماً أزلياً غير مخلوق، ممتدّ بأزلية الذات الإلهية، إذ غذّا هذا النقاش المأمون العباسي، بتأثير المعتزلة وحوّله إلى قضية أساسية ليس في عقيدة الإنسان المسلم وحسب، بل في حياته وطبيعة موقف الدولة منه، حتى اشتهر ذلك في بغداد، بما راح يُطلق عليه محنة "خلق القرآن".

بادئ ذي بدء ومن وجهة نظر البحث الفلسفي، فإن البحث عن كلام الله في القرآن وفيما إذا كان قديماً أو حديثاً، هو أمر لا جدوى منه لأن محصلته المعرفية صفرية، على ما هو مفصّل في المؤلفات المختصّة.

لكن الرائع الملفت للنظر، هو أجوبة أئمة أهل البيت ومنهجيتهم الإيجابية الراقية في حسم النقاش في هذه المسألة. فهذا أحدهم، يقول: قلتُ للإمام الرضا: يا ابن رسول الله، أخبرني عن القرآن، أخالقٌ أم مخلوق؟ فقال: «ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله». 

كما حدّث أحدهم الإمام الكاظم، واتجه إليه، بالسؤال: «يا ابن رسول الله، ما تقول في القرآن، فقد اختلف فيه من قِبلنا، فقال قوم إنه مخلوق، وقال قوم إنه غير مخلوق؟ فأجابه الإمام: "أما إني لا أقول في ذلك ما يقولون، ولكني أقول إنه كلام الله عزّ وجل".

ولما اشتدّ الجدال عن القضية في بغداد وتحوّل إلى محنة ونزاع في عصر ما بعد المأمون، لجأ بعضهم إلى الإمام علي الهادي، فكتب إلى بعض شيعته ببغداد، كتاباً يتضمّن حدوداً شديدة الوضوح لتنظيم المعرفة الدينية بشأن القرآن، مما جاء فيه، قوله: "عصمنا الله وإياك من الفتنة، فإن يفعل فأعظِم بها نعمة وإلا يفعل فهي الهلكة. نحن نرى أن الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب، فتعاطى السائل ما ليس له، وتكلف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلا الله، وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالين".

ومن قِصار جوابات الإمام الرضا عن هذه المسألة الخلافية، كلامه للريان بن الصلت، عندما سأله: ما تقول في القرآن؟ فأجابه الإمام: «كلام الله، لا تتجاوزوه، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلوا» وصدق الله العظيم، بقوله: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ (الأنبياء: 2).