محمد طهمازي
من الناحية المشهديَّة (السيميائيَّة) ثمة فرقٌ بين الرمز والعلامة التي لا تتعدى مجال الإشارة التي يفهمها الجميع، ذلك أنَّ الرمز يتخذ مساراً معقداً ويرتبط إدراكه بفهم المتلقي للفكرة التي يرمي إليها الفنان. وهناك من الرموز ما هو خاصٌّ وهو الذي يهتم به الفن، وما هو عامٌ وهو الذي تهتم به الأنثروبولوجيا. إذ إنَّ الرموز الخاصة تهدف للتعبير عن الانفعالات الفرديَّة والمواقف والرؤى الشخصيَّة، بينما تهدف الرموز العامة إلى تحقيق التواصل بين الأفراد.
لطالما آمن الكبار من الفنانين والأدباء بالقيمة الفنيَّة قبل المعنويَّة لرموز التراث المحلي، لأسبابٍ أدركوها بذكائهم من عدة جوانب أولها أنَّ هذه المحليَّة تمنحهم التميز عن بقيَّة فناني الشعوب إذا أحسنوا توظيفها في أعمالهم الإبداعيَّة تليها معرفتهم الكبيرة بتراثهم ورموزه وتفاصيله التي يمكن استخدامها كثيمات وموضوعات لا حصر لها في نتاجاتهم مع الابتعاد عن الطروحات الرتيبة.
انطلاقاً من محليته الاسبانيَّة استخدم بيكاسو الثور بشكلٍ ملحوظٍ في أعماله ومنحه أدواراً مختلفة ولم يكن مجرد ثيمة تراثيَّة يميز نفسه بها بل أطلق لأبحاثه العنان لتحيط بكل ما يمكن أنْ تمثله رمزيَّة الثور بدءاً من طقس مصارعة الثيران الدموي الذي طبع روح الشعب الاسباني بالقسوة حتى يومنا هذا مع أنهم يحتفون به كطقسٍ احتفالي أو رياضة كما يسمونها، بيد أنها تعبيرٌ قويٌّ عن روح العنف والقسوة المفرطة الساكنة في لا وعي الشعب الاسباني.
من الرموز التي ضمنها بيكاسو في لوحته الجورنيكا نجد «الثور» في صدارة المشهد التراجيدي لكنه، وللمفارقة، رمز بالثور ليس للشعب الاسباني وإنما لوحشيَّة النازي الداعم للجنرال فرانكو ولاحقاً الديكتاتور فرانكو واستخدم «الحصان» كرمزٍ لاسبانيا الجريحة التي تتألم، في صورتها المصغرة في بلدة جورنيكا التي تعرضت لقصف الطيران الالماني في الحرب الاهليَّة الاسبانيَّة، الحصان الذي يصرخ من وقع الرمح الذي طعنه في مقتل.
يبادرنا سؤالٌ ملحٌ عن السبب الذي دفع بيكاسو لجعل الثور رمزاً للعدو الهمجي برغم كون الثور في مسرح المصارعة الاسبانيَّة هو ضحيَّة يقدمونها كما يفعل القيصر الروماني مع الأسرى حين كان يزجّ بهم في معارك غير متكافئة أمام مقاتلين محترفين أو أسود ونمور ضارية جائعة مستفزة ليستمتع الحشد الهائج بمنظر الأجساد الممزقة والأوصال المقطعة والدماء النازفة ويشعر الحاكم ونبلاؤه بالنشوة أمام هذا المشهد الدموي، وهو ما جعل البعض يرجح إدخال الامبراطور (يوليوس قيصر) الثور المميز المجلوب من شبه الجزيرة الآيبيريَّة. هل آمن بيكاسو بشرعيَّة مجزرة الثيران وما فيها من ساديَّة بشريَّة تجاه حيوان لا ذنب له سوى أنه خُلِقَ ثوراً في أسبانيا ليتعرض للطعن والتعذيب المطول لا لشيء سوى لتحقيق نشوة جمهورٍ مصابٍ بغريزة القتل لأجل المتعة؟ هل عدَّ بيكاسو الثور رمزاً للشرور أو الشيطان الذي لا بُدَّ من قتله كما يرجم رمز الشيطان في مواسم الحج مراراً وتكراراً؟ كيف يستخدم بيكاسو الثور كرمزٍ للوحشيَّة وهو الذي تشهد الكثير من أعماله الزيتيَّة والتخطيطيَّة على مقدار احتفائه بالثور ككائنٍ وكيانٍ مهمٍ في وعيه الفني وقيمة تشكيليَّة في تكويناته وحتى لا وعيه كإنسانٍ وهو ما يدعونا للتوقف كثيراً أمام التفسير الذي يضع رمز الثور في لوحة الجورنيكا الشهيرة في خانة الوحش النازي صانع المذبحة التي نالت من النساء والأطفال والشيوخ العزل..كيف يبدل الثور الضحيَّة المساق إلى حلبة القتل المشؤومة بالحصان الذي يحمل القاتل لكنه ليس بمنأى عن الموت حين تنغرز قرون الثور، الذي يصارع لأجل البقاء، في بطنه لتشقها وتندلق أحشاؤه منها ليلقى ميتة مريعة هو الآخر.. كيف حدث أنْ وضعَ بيكاسو الحصان الضحيَّة بدل الثور الضحيَّة!برأيي أنَّ بيكاسو لم يفعل ذلك كون الأمر لا ينساق مع شخصيَّة بيكاسو ولا ثقافته الفنيَّة وحسه الذكي. فرمزا الثور والحصان في لوحة الجورنيكا كلاهما ضحيَّة في لعبة قدريَّة لعبة دوليَّة يقودها جنون السلطة والتسلط أوقعت بين الشعب الثور والشعب الحصان في مواجهة لا رابح فيها سوى مدير المسرح المتفرج هناك بعيداً عن الغبار الدموي.
بيكاسو في حقيقة الأمر لم يقف مع طرفٍ اسباني ضد طرفٍ اسباني آخر في أتون تلك الحرب الأهليَّة المدمرة بل كان مع الوطن الاسباني والشعب الاسباني في فرقته قبل وحدته. هذا في لحظويَّة الحدث. بيكاسو كان مع الإنسان في مختلف نزواته واصطفافاته، في المنطقة المضيئة وتلك المعتمة... وللبحث بقيَّة.