ابتهال بليبل
المسرح ليس مجرد تجاور بين عناصره المتمثلة في النص والأداء والجمهور.. إنه صراع على المعنى الوجودي. عندما تنجح أفكار الكاتب المسرحي في أن تمثل سردياته عصره وموقفه، فإنها ستُعبر درامياً عن مجتمعه، وبالتالي سيتشكل هذا المجتمع بطريقة مختلفة.
المسرح بالنسبة لي لغة جسد قبل أن تكون كلمات وحوارات.. هو فسحة للرجوع إلى حياة ماضية ومحاولات بإعادة ربطها مع الحاضر غاية في تشكيل الوعي الثوري المغاير، لإنه كما يقال "مرآة تعكس الهموم الإنسانية". ثورنتون وايلدر يصفه من أجل ذلك بأنه "اللقاء الأعظم" حيث ينخرط الغرباء في تجربة إنسانية موحدة، تجربة تختزل فيها فلسفة الوجود إلى نظرة عينين أو حركة يد.
وفي عالم بدأت حدود الواقع بالخيال تتلاشى، لم تعد مهمة خشبة المسرح مجرد منصة لعرض القصص والحكايات الشعبية، بل فضاء للاحتمالات المفتوحة. لذا فإن الاحتفاء بيوم المسرح العالمي قد يعني ببساطة التركيز على مسؤوليته تجاه المجتمع.
رسالةٌ وهدف
إذ يرى الناقد زهير الجبوري أن الاحتفاء بالقيم الفنية يعد ظاهرة ثقافية تعبر عن جوهر الإنسان وعن حضوره في الوجود، والاحتفاء بيوم المسرح العالمي واحد من أهم هذه الظواهر، لأن الخطاب الجمالي والإبداعي يتكرس في هذا الفن الذي يسمى بـ (أبوالفنون) لشموليته، ولأن التقلييد السنوي من ممارسات فنية وعروض مسرحية يأخذ على عاتقه هوية خاصة، تعكس مدى انتماء الإنسان في أية بقعة من بقاع الأرض إلى عاداته وتقاليده، ليبعث رسالة جوهرها إنساني، لذا كان المنبع الأساس في اقامة هذه الذكرى، كما يوضح الناقد، هي قراءة التراث بحُلّة معاصرة، لأن الخزين الإبداعي في المسرح العالمي بشكل عام وفي العراق بشكل خاص، يعكس مدى تأثير الصورة الحقيقية لفحوى المجتمع وما يمتلكه من مقومات كبيرة وخزين معرفي وتراثي معا.
ويعتقد الجبوري أن الهدف الكبير في جعل العالم يحتفل بذكراه المسرحية ويومه المعهود هو زيادة الوعي، الذي انتجه المسرح للمجتمع عبر خشبته أو ميادينه الأخرى. ويضيف أننا باختصار شديد "نقف أمام منظومة جمالية تعطينا شكلا تعبيراً قيمياً لرسالة إنسانية فيها كل مواصفات الجمال الأدائي والفني والتقني، وهي بادرة تحتاج إلى مَد يَد المؤسسة فيها لتضيء للعالم بأجمعه وتبرز علامات كبيرة ابداعية لخطا سوسيو ثقافي". ولا ضير في الأخذ بنظر الاعتبار اصدار مطبوعات تُظهر للجيل الجديد كيف كان المسرح له جذوره وتأثيره في المجتمع، وفي ركام الأحداث المضطربة، التي تشهدها منطقة الشرق الاوسط على وجه التحديد، ينهض المسرح منتفضا ليقدم لنا القيمة الفنية والتاريخية المؤثرة التي ستبقى ما بقيت الحياة.
النص العراقي
النص المسرحي العراقي شهد تحولات كبيرة على صعيد البنية الدرامية والمضامين، ويرى الكاتب المسرحي علي العبادي، فبعد أن كان ينحسر في حقب زمنية سابقة في الإرشاد والتوجيه والتعبوية. أما اليوم، فقد أصبح النص المسرحي العراقي متصدرًا الخطاب المسرحي عربيًا، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تفوقه وحصاده للمراكز الأولى في مسابقات التأليف المسرحي العربية.
ويقول العبادي إن "النص المسرحي العراقي يُعتبر نصاً –ساخنًا- نظراً للبيئة التي ينبثق منها". ففي كثير من الأحيان، يواجه العاملون في هذا المجال مشكلة كتابية كبيرة تتمثل في: "كيف يكتبون نصاً مسرحياً تجريبياً يتجاوز الواقعية، خاصةً بعد أن وصلت الدهشة والغرابة إلى مراحل متقدمة، وأصبح التجريب بعذاباته الفعل اليومي المستساغ من قبل الحكومات المتعاقبة؟"، بحسب رأيه.
ويوضح: بما أن الألم العربي يكاد يكون مشتركًا، فقد أصبح النص المسرحي هو الناطق الرسمي باسم هذا الضياع والألم الذي يعيشه العرب. ولذلك، نلاحظ اليوم حضورًا لافتًا للنص المسرحي على خشبات المسارح العربية، وما يحققه من تأثيرات ثقافية وعلمية تمثلت في الدراسات النقدية وتناول العديد من تجارب الكتّاب في الدراسات العليا.
أما في ما يخص التحديات التي يواجهها الكاتب المسرحي العراقي، فعتقد العبادي أنه على الرغم من كونه المؤسس الفعلي لخطاب العرض (حيث النص هو مقترح العرض، والعرض هو مقترح الحياة)، نجد أن الكاتب في العراق وخارجه لا يتمتع بحقوق تذكر، حتى تلك المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية. شخصيًا، تعرضت للعديد من حالات السطو على نصوصي المسرحية بطريقة فجّة، حيث وجدت أعمالي تُقدم دون ذكر اسمي، بل وتُعبث بها من دون إذن مني. في بعض الأحيان، أكتشف بالصدفة أن نصي قد تم تقديمه من قبل مخرج ما دون علمي، ناهيك عن إقصاء المؤلف من حضور عرضه الذي يشارك في المهرجانات، في حين أن كل فريق العمل يُدعى إلا هو. يعود ذلك إلى سببين رئيسين: قلة الوعي، والتعالي.
وحتى الآن، يتابع العبادي، وبعد أن تجاوز عمر النص المسرحي العراقي القرن وربع القرن تقريبًا، لا يزال هناك غياب لمسابقة رسمية تُعنى بالنص المسرحي. فبعض المسابقات التي تُقام هي مسابقات خجولة، تأتي كنسخة مشوهة من بعض المسابقات العربية، أو لمجاراة الموضة في هذا المجال، دون أن يكون الدافع الحقيقي هو الاهتمام بالنص المسرحي. في المقابل، نجد دولًا حديثة جغرافياً ومسرحيًا تحتفي بالنص المسرحي العربي، بينما يتم تهميش الكاتب المسرحي العراقي من قبل المؤسسات الحكومية وحتى من أبناء جلدته. تخيلوا أن الكاتب بعد أن يكتب نصه، يقدمه للمخرج مجانًا، ويقوم بطباعته على نفقته الخاصة، ويوزعه بين القراء دون مقابل.
التقنيَّة الحديثة
الرؤى والتصورات في المسرح اليوم تتشكل عبر توظيف ممكنات التقدم التكنولوجي في التقنية الحديثة، بحسب الناقد المسرحي د. علاء كريم، الذي يرى التطور التكنولوجي في الزمن المعاصر قد أثر بشكل كبير في بناء الفعل المسرحي، وأيضا على خلق الصورة المشهدية التي تتلاءم مع متطلبات اللحظة الإبداعية المعاصرة في المسرح الحالي، والتي ساعدت في إعادة تأهيل اللغة الصورية المسرحية.
ويقول كريم إن "المسرح يشكل الوعي الجمعي عبر التعبير عن أفكاره ومضمونه الساعي إلى استخدام مجموعة عناصره، لتشكل حلقة تواصل مع المتلقي، ومن ثم يستطيع معرفة ضرورة التقدم التقني في المسرح، وقراءة الملامح الأبرز وتحديد حضورها المغاير في جوانب الحياة المختلفة".
وعليه فإن فلسفة المسرح تعتمد التحولات الجذرية في شتى المجالات، والتي يمكن بوساطتها اختراق مشاعر وأحاسيس المتلقي، كما يتابع كريم، ومن ثم تخلق صور جمالية في مخيلته عبر استرجاع ذاكرته، والتي يمكن بوساطتها إفراز مفاهيم جديدة ملامسة للفنون المعاصرة.