فرنسا: غيث طلال
يعيش العراقيون والعرب في فرنسا أجواءً روحانيَّة مميزة، يسعون من خلالها إلى الحفاظ على تقاليدهم وعاداتهم الأصيلة، رغم بُعدهم عن أوطانهم. في مدن مثل ستراسبورغ، تتجلى مظاهر هذا الشهر الفضيل من خلال التجمعات العائليَّة، والموائد الرمضانيَّة المشتركة، والأنشطة الدينيَّة والثقافيَّة، فضلًا عن المبادرات الإنسانيَّة التي تهدف إلى مساعدة المحتاجين داخل فرنسا وخارجها.
رمضان في المهجر يحمل معه حنينًا قويًا إلى الأجواء التي عاشها العراقيون والعرب في بلادهم، حيث تبقى بعض العادات مترسخة في الذاكرة، مثل الأطفال الذين كانوا يجوبون الأزقة بعد الإفطار مرددين أنشودة "ماجينا يا ماجينا، حلّي الجيس وانطينا"، وكذلك انتظار المسحراتي قبيل الفجر لتنبيه الصائمين بموعد الإمساك. هذه العادات رغم بساطتها، تظل جزءًا من الهويَّة الثقافيَّة التي يحاول أبناء الجاليَّة الحفاظ عليها.
في هذا السياق، التقت "الصباح" بأفرادٍ من الجالية العراقيَّة والعربيَّة في مدينة ستراسبورغ، حيث أمضت يوماً رمضانياً معهم، من ساعات الفجر الأولى حتى غروب الشمس. كان الختام في منزل أبي محمد، وهو مهندس عراقي يعمل في مجال البرمجيات، دأب على إقامة موائد رمضانيَّة جماعيَّة منذ أنْ كان في العراق، ويواصل هذه العادة سنويًا في فرنسا بهدف جمع الأقرباء والأصدقاء والجيران على مائدة واحدة.
يقول أبو محمد: "لا يمرّ أسبوعٌ رمضانيٌّ من دون إفطارٍ جماعي، لا سيما في الغربة، فالهدف ليس فقط تناول الطعام معًا، بل الحفاظ على التقاليد التي نشأنا عليها. في الماضي، كنَّا نتجمع في بيوت الأسرة، واليوم نحاول أنْ نوفر الأجواء ذاتها هنا، إذ يشارك الجميع في تحضير وجبات الإفطار التي تعكس تنوع المطابخ العربيَّة".
وقد شاركت أم محمد، زوجته، في إعداد مائدة الإفطار التي ضمّت أطباقًا عراقيَّة شهيرة مثل الشوربة، والدولمة، والبرياني، إلى جانب مجموعة من الحلويات مثل الزلابية والكنافة. وكان للأصدقاء من جنسيات عربيَّة مختلفة مساهماتهم أيضًا، حيث أُضيفت أطباقٌ تقليديَّة من بلدانهم.
يقول حسان من سوريا: "الإفطار الجماعي في رمضان لا يقتصر فقط على مشاركة الطعام، بل هو فرصة لإحياء الأجواء الروحانيَّة، حيث نؤدي الصلوات معًا، ونشارك في المحاضرات الفكريَّة والدينيَّة التي تُقام في المساجد والمراكز الإسلاميَّة، والتي تستهدف مختلف الفئات العمريَّة لترسيخ الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة في نفوس الأجيال الجديدة".
لا يقتصر رمضان على العادات والتقاليد الغذائيَّة فقط، بل يمثل فرصة لتعزيز العلاقات بين أبناء الجالية العربيَّة، حيث يشير زكريا كرانفوز من الجزائر إلى أنَّ "رمضان ليس مجرد شهر للصيام، بل هو مناسبة اجتماعيَّة ودينيَّة عظيمة تجمع بين الشعوب العربيَّة المقيمة في فرنسا. فهو فرصة للتواصل الأسري، والتعرف على ثقافات عربيَّة مختلفة، ونقل هذه التقاليد إلى الأجيال الجديدة".
إلى جانب الأجواء الأسريَّة، يحرص أبناء الجاليَّة العراقيَّة والعربيَّة على استثمار رمضان في تقديم المساعدات للمحتاجين، سواء داخل فرنسا أو في البلدان العربيَّة، إذ بادر أبا محمد بإنشاء صندوقٍ خيريٍ تحت مسمى "رمضان الخيرات"، يهدف إلى جمع التبرعات وتقديم المساعدات للفقراء. هذا الصندوق، الذي تمَّ وضعه في إحدى الجمعيات الخيريَّة، شهد إقبالًا كبيرًا من المتبرعين، بما في ذلك مواطنون فرنسيون، الأمر الذي يعكس رسالة التضامن الإنساني التي تتجاوز الحدود والانتماءات.
يقول أبو محمد: "الفكرة جاءت من حاجة الكثيرين للمساعدة، خصوصًا في ظل الأوضاع الصعبة في بعض البلدان العربيَّة. قبيل رمضان، بدأنا بجمع التبرعات، والهدف هو إرسال ما تيسر منها للمحتاجين، خاصة في غزة، قبل حلول عيد الفطر المبارك".