المجتمع المدني العراقي.. أكثر من عقدين من التخبط وضعف التأثير

آراء 2025/04/06
...

 أ.د خالد عليوي العرداوي

 

يشير مصطلح المجتمع المدني إلى مجموعة التنظيمات المدنية، التي تشغل الفراغ بين الأسرة والسلطة، وتكون واسطة الافراد لإيصال صوتهم وحاجاتهم وتطلعاتهم إلى السلطة، والتأثير على الأخيرة للاستجابة لهذه الحاجات والتطلعات من خلال السياسات والقرارات الصادرة عنها. 

وتتمتع هذه التنظيمات بمجموعة من الخصائص الخاصة بها، منها: الطوعية في الانتماء وترك الانتماء، والاستقلالية، والعمل الجماعي المنظم، وخدمة الصالح العام وعدم السعي للربح الخاص أو التطلع للوصول إلى السلطة. فضلا عن التجانس، والتعاون، وترك اللجوء إلى القوة لتحقيق أهدافها.

وتنشط مثل هذه التنظيمات في بيئة ديمقراطية ترتكز على سيادة القانون وفاعلية دور المؤسسات الدستورية، ووجود قيم مدنية تهذب طباع الحكام والمحكومين لتحفزها على السلوك الحضاري المستقيم. ولذا من الصعب الحديث عن وجود مجتمع مدني معافى في ظل دول مستبدة أو ضعيفة البناء الديمقراطي، فالاستبداد والهشاشة الديمقراطية ينظران شزرا لكل ما هو مدني من التنظيمات وأنماط القيم والسلوك.

وقدر تعلق الامر بالعراق، شهدت العقود السابقة لسنة 2003 إيجاد بيئة معادية تماما للمجتمع المدني، فظروف الاستبداد والدكتاتورية جعلت كل المصالح تذوي امام مصلحة السلطة، وكل القيم تتمحور حول تمجيدها، فكان الحديث عن الصالح العام والقيم المدنية والتنظيمات المدنية كفيل لوحده في جعل المتحدث في خانة أعداء الدولة والنظام الحاكم، ولذا عملت السلطة كل ما يمكنها لتفتيت وانهاء وجود المجتمع المدني من اجل تحويل الافراد من مواطنين تربطهم بالسلطة والمجتمع رابطة المواطنة الضامنة لحقوقهم وحرياتهم المحترمة إلى مجرد رعايا تقرر السلطة لهم حدود حرياتهم وحقوقهم وليس امامهم الا السمع والطاعة. 

لقد تهاوى - آنذاك- المجتمع المدني العراقي الناشئ: قيما، وروابط، وتنظيمات، وعلاقات، وحل محله مدعوما من السلطة المجتمع الأهلي التقليدي، فكانت قيم العنف والجبر والطاعة والتفرد بالرأي مقدمة على قيم التسامح والرفق والحوار واحترام الرأي والرأي الاخر، كما كان الانتماء للطائفة والعشيرة والقبيلة والمنطقة الجغرافية مقدم على الانتماء الوطني، والمحسوبية والمنسوبية مقدمة على سيادة القانون والمساواة امامه، وسادت دوافع التغالب والخوف والكراهية العلاقات البينية والعمودية للحكام المحكومين. 

ولكن بعد التغيير الذي حصل في سنة 2003 انتعشت الآمال باستعادة دور المجتمع المدني مدفوعة بخطاب سياسي يتحدث عن تبني الخيار الديمقراطي كخيار مفضل لبناء الدولة والمجتمع، وإدارة السلطة، لاسيما وان السلطة الجديدة أوجدت في بداية التغيير وزارة خاصة لشؤون المجتمع المدني، فتجسدت تلك الآمال بهبة واسعة من قبل الافراد والقوى المختلفة لتأسيس منظمات مدنية كثيرة تجاوز عددها الخمس آلاف منظمة. وبعد الغاء وزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني وربط تأسيس المنظمات المدنية بدائرة المنظمات غير الحكومية في رئاسة الوزراء من خلال القانون رقم (10) لسنة 2012 استمر الاندفاع المجتمعي لتأسيس هذه المنظمات، ثم ما لبث إن أخذ في وقت لاحق بالتراجع نوعا ما.

إن وجود آلاف منظمات المجتمع المدني لم يسهم كثيرا في استعادة المجتمع المدني العراقي، لدوره المتوقع من نظيراته في الدول المتقدمة، والأسباب وراء ذلك كثيرة، يأتي في مقدمتها فشل العملية السياسية التي انطلقت بعد 2003 في ترسيخ وتعزيز الديمقراطية وسيادة القانون، فضعف الديمقراطية يعني ضعف المؤسسات الدستورية، وضعف انفاذ القانون بحزم وقوة وحيادية، وبالتالي ضعف منظمات المجتمع المدني حديثة التأسيس. 

وما زاد الطين بلة، هو ارتباط عدد كبير من هذه المنظمات بقوى سياسية واجتماعية نافذة، حتى أنها صارت أقرب ما تكون إلى قنوات إعلامية تروج لهذه القوى، وتدافع عن قياداتها وأطروحاتها وطموحاتها في الوصول إلى السلطة واحراز المغانم، ففقدت نتيجة لذلك شرط الاستقلالية والحيادية الذي لا غنى لها عنه لاكتساب قوتها وتأثيرها الإيجابي. 

كما تأسست بعض المنظمات بشكل مستعجل من افراد وقوى لا يمتلكون الوعي الكافي بطبيعتها ودورها، لأهداف شخصية منها تحقيق الربح أو الشهرة، ولذا تجدها بعد مدة من ظهورها اختفت اما لأنها حققت الهدف القريب الذي وجدت من اجله واما لأنها فشلت في تحقيقه لسبب أو آخر، وهكذا منظمات افتقرت ابتداء إلى شرط خدمة الصالح العام، الذي ينبغي ان تتصف به أي منظمة مجتمع مدني. 

وهناك منظمات أخرى لا يعوز مؤسسيها الوعي بطبيعتها ودورها، ولا تنقصها الشروط المطلوبة لوجودها، ولكنها تفتقر إلى التمويل المالي الذي يمكنها من تحقيق أهدافها، وهي الأخرى بعد مدة من ظهورها تعثرت ثم توقفت عن العمل رسميا أو بحكم الأمر الواقع. 

فضلا عما تقدم، ساعد الخطاب السياسي السائد على زيادة ضعف واهمال منظمات المجتمع المدني، فقد ارتكز هذا الخطاب على استحضار الولاءات الضيقة (الطائفة، العشيرة، القبيلة...) على حساب الولاء الوطني بكل ما يحمله ذلك من قيم ورموز ونزعات للتفاخر والتشكيك والاستقواء بين الافراد والجماعات، وهذا يعني استحضار نفس البيئة الطاردة لعمل المجتمع المدني في مراحل سابقة ولكن بشكل آخر، ولأهداف وغايات مختلفة.

إن ضعف المجتمع المدني يعد عيبا خطيرا في جسد الديمقراطية العراقية بعد 2003، فهو يجعلها هشة ورخوة في الان نفسه، ويحرمها من المستلزمات البشرية والقيمية المطلوبة لتعزيز قوة ومتانة هياكلها المادية المؤسساتية، وبدون اصلاح هذا العيب لن يكون مستغربا ابدا اسقاط هذه الديمقراطية يوما ما على يد أعدائها الطبيعيين من المغامرين والانتهازيين والمتطرفين، فقوة الديمقراطية الحقيقية تكمن في وجود قيمها ومؤسساتها الداعمة، وبدون وجود المجتمع المدني لا وجود لهذه القيم والمؤسسات.

 

باحث وأكاديمي