حازم رعد
النظام هو مجموعة القواعد والأدوات والاستراتيجيات التي تدبر شؤون مؤسسة من المؤسسات، أو وحدة اجتماعيَّة أو دينيَّة، فالنظام موقف إجرائيٌّ مؤلف من مفاهيم تكون الإدارة الفعليَّة للأشياء، وإضافة النظام للفلسفة معناه أن الفلسفة هي تلك الأدوات والقوانين التي تدبر شؤون مؤسسة العالم وتهتم بتنظيم أنشطته "نظرياً".
كثيرة هي تعريفات الفلسفة، وقد تتساوى مع كثرة الفلاسفة أنفسهم، فلكل واحدٍ من هؤلاء وجهة نظر ورؤية عن الفلسفة تبعاً لموقفه المنهجي، منها "عقلي أو حسي أو شهودي وغير ذلك" وليس من دليلٍ أوضح على ذلك إلا النظر في الاتجاهات الفلسفيَّة السائدة التي ظهرت في تاريخ الفلسفة، فنقرأ ونسمع عن فلسفات عديدة مثل الوجوديَّة والماركسيَّة والبراغماتيَّة والإسلاميَّة والطاويَّة والعدميَّة وغير تلك الاتجاهات الكثير، وما ذلك إلا نابعٌ من تعدد وجهات نظر الفلاسفة ومواقفهم عن العالم والحياة وعن طرق العيش.
إنَّ الفلسفة نظامٌ للعالمٍ واحد، من تلك التعريفات التي تصف الفلسفة من حيث الإجراء والوظائف والصنعة الفكريَّة، وهذا الوصف "النظام" الدال على الكليَّة والاستغراق يجعل التعريف يندرج في فضاء التعريفات ذات الصبغة الكليَّة للفلسفة، إذ هناك تعريفاتٌ تنزع نحو الخصوصيَّة، وخاصة مع تلك التي برزت مع بعض فلسفات القرن العشرين "المعاصرة".
ولكن تعريف الفلسفة بأنها نظامٌ للعالم يشابه في واحدة من أبرز ميزاته مع تعريف الفلسفة بأنها (البحث عن العلل البعيدة الكليَّة) وهو التعريف الوافد إلينا من أرسطو طاليس؛ بمعنى أنَّها لا تهتم للعلل القريبة "القضايا الجزئيَّة"، وإنما تستهدف عللاً بعيدة "العالم واحد من تلك الموضوعات التي تبحثها الفلسفة" ويساق في هذا الصدد كشاهدٍ على ذلك قصة طاليس حينما خرج مع خادمته يمشي ليلاً وهو يتأمل في السماء والنجوم، وبينما هو يمشي شارد الذهن سقط بحفرة فضحكت خادمته وقالت إنَّ طاليس يعرف نجوم السماء ويجهل ما في الزقاق الذي فيه بيته.
إنَّ أدنى دلالة يمكن استشفافها من هذه الحادثة ومن سرد هذه القصة هو أنَّ هناك نمطاً من الفلاسفة اهتمَّ بالنظر التأملي في الطبيعة والكون "الكوزمولوجيا" أي في النظام العام الذي يحكم العالم أو كما يسميه "طاليس" باللوغوس، ورغم أنه انفصل تماماً عن الواقع، بحيث إنَّ هذا النمط من الفلاسفة يتعثرُ ويقعُ في المشكلات الواقعيَّة المختلفة "الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة" وهو لا يشعر بها حتى يقع المحذور، ولذا يعرف الملا صدرا الشيرازي الفلسفة بأنها "نظم العالم نظماً عقلياً" أي إيجاد ربطٍ بين العلاقات المتبادلة التي تشكل بمجملها القوانين التي تحكم سيرورته وحركته في مختلف الاتجاهات.
إنَّ الفلسفة بحث كلي قبل أنْ تنزل إلى ساحة الإنسان لتبحث فيه، وفي متعلقاته والمؤثرات التي تضغط عليه، ومن تلك المؤثرات "الأسئلة الوجوديَّة الكبرى" التي تؤرق ذهنه على الدوام، وتلحُّ عليه طلباً للإجابات، وهذا ما استدعى الفلاسفة الطبيعيين وهم جماعة من الناس اشتدَّ طلبهم في بحث واستكشاف العالم والكون من منظور طبيعي، ولهذا السبب أطلق عليهم تسمية "الكوزمولوجيين".
وفي هذا السياق يتفردُ فيثاغور، وهو من الفلاسفة الطبيعيين قبل سقراط في إطلاق العنان لمصطلح "كوسموس" والذي يعني عنده نظام العالم؛ أي مجموعة القوانين التي تحكمُ وتنظمُ العالمَ على أفضل تقدير وتنظيم، وهناك شيءٌ لطيفٌ يتعلقُ بهذه التفصيلة أنه وقعت بين يدي رواية تاريخيَّة مرويَّة في كتاب (توحيد المفضل) تفسر كلمة "كوسموس" مرويَّة عن الإمام الصادق وهذا نصُّها (وأعلم يا مفضل أنَّ اسم هذا العالم بلسان اليونانيَّة الجاري المعروف عندهم "قوسموس" وتفسيره الزينة وكذلك سمته الفلاسفة ومن ادعى الحكمة، فكانوا يسمونه بهذا الاسم إلا لما رأوا فيه من التقدير والنظام فلم يرضوا أنْ يسموه تقديراً ونظاماً حتى سنوه دينة! ليخبروا أنه مع ما هو عليه من الصواب والإتقان على غاية الحسن والبهاء) فبحسب هذا التفصيل تكون القوانين التي تدبر النظام إضافة لحسنها وجماليَّة نظمها هي على أتم وجه من ناحية تقدير الأشياء وحركتها وتماميَّة تدبيرها.
إنَّ نظم العالم لا يتم إلا عبر البحث عن قوانين كليَّة تنبثق من خلال البحث في أسئلة عامَّة تغطي في كليتها مساحة النظام، والبحث النظري يتوفر على تلك الإمكانيَّة فإحاطة العقل والفكر فيه من القدرة تمكنه من ذلك.
وأول الأسئلة التي يطرحها العقل الإنساني بكليته هي الأسئلة الوجوديَّة الكبرى (السؤال عن أصل العالم وعن مصير العالم) وعن الطرق المثلى لتدبير هذا العالم؛ أي البحث عن رؤية عامَّة تغطي مجموع الوجود، وهذا السؤال هو واحدٌ عند جميع البشر، فما من إنسانٍ على اختلاف ديانته وقوميته وعرقه وجغرافيته إلا ويلحُّ هذا السؤال في ذهنه باحثاً عن إجابة ويمكن استعمال هذه الوحدة في السؤال كاستدلالٍ على وحدة القوانين والقواعد الكليَّة "الميتافيزيقيَّة" التي تسير نظام الوجود والعالم. ولأجل هذا يرى مرتضى مطهري في تقديمه لكتاب "أصول الفلسفة للعلامة الطباطبائي" في أنَّ الأخيرة (هي البحث عن نظام الوجود والقوانين السارية فيه وجعل الوجود بشراشره هدفاً للبحث والنظر) إلا اعتقاداً منه أنَّ هناك قواعد عامَّة تنظم الوجود وتسير حركته وتحكم علاقات الأشياء داخل تلك المجموعة الوجوديَّة. وهذا الحد للفلسفة يتفقُ من جهة مع ما ذهبت إليه الماركسيَّة في تعريفها للفلسفة في أنها "علمٌ بقوانين المجتمع والطبيعة"، وكلا البعدين المذكورين في التعريف يشكلان أشياء العالم. فإذن الفلسفة تسعى جاهدة للوقوف على تلك القوانين التي من شأنها أنْ تدبر نظم الوجود والعالم والحياة وضبط حركة تلك الأشياء وتسييرها على وفق تلكم القواعد المتشربة في كل دقائق هذا العالم والوجود، ورغم أنها مخفيَّة عن الإنسان إلا أن يتطلع لمعرفتها حسب ما يتمكن وعلى وفق سيرٍ حثيثٍ كشفي استنتاجي وتأملي متدرجٍ حسب مستطاعه.