مآب عامر
فرصة الحصول على كتابٍ بشكلٍ مجاني "حادثة" متناقضة جداً، لأن هناك الكثير من المداليل المراوغة التي تظهر حولها وتنبع منها، فالقيمة المعرفيَّة المفترضة للكتاب كيف يمكن أن تقدم بصورة مجانيَّة، وهناك أيضاً ثمن المعرفة التي لا ثمن لها.. مثلما هناك "جدوى" الجهد الذي يقدمه المؤلف وماذا يمكن أن يقابله.
فمنذ أعوام والعديد من الأشخاص الذين أعرفهم صاروا يتذمرون من مسألة توزيع الكتب بشكلٍ مجاني. وبات هناك شبه إجماع يقول: إنك لن تقرأ كتاباً قدم إليك مجاناً وخاصة في حفلات توقيع الكتب، حيث يذهب إليها الكثير من الأشخاص كمجاملة أو لتأدية واجبٍ اجتماعي ثقيلٍ أو لتسجيل حضورٍ في مناسبة إشهاريَّة.
لكن - أفترض حالة أخرى- إنَّ من أجمل الأشياء السيئة التي كنا قد اعتدنا عليها هي عند اللقاء بمجموعة من الكُتاب في مناسبة ما لنحصل على عددٍ لا بأس به من إصداراتهم المجانيَّة. حتى أصبحنا لا نستوعب فكرة شراء الكتب ولكنْ حتما كان في داخل الأغلبيَّة فكرة أنَّ الكتب المهمة هي فقط من نجاهد على شرائها. وهذه الفكرة عن الشراء لم تأت اعتباطاً، بل هي حصيلة مسار أو نتيجة لأسبابٍ عديدة وربما أهمها (لماذا أقتني كتاباً مقابل مبلغٍ من المال بينما يمكنني الحصول عليه بسهولة بشكلٍ مجاني) والسبب الآخر يكمن في الزيادة المذهلة في الكتب والكُتاب حتى لا يمرّ يومٌ من دون أنْ نسمع عن إصدارٍ جديد.
ولأنَّ صناعة الكتاب تحتاج لتكاليف ماديَّة، صار غالبيَّة الكُتاب يرون مسألتي التأليف والطباعة ومن ثم التوزيع مجاناً استنزافاً لقدراتهم الفكريَّة والاقتصاديَّة، حتى تعالت الأصوات بين الحين والآخر بضرورة أنْ تعودَ حفلات توقيع الكتب إلى بيع الإصدارات بدلاً من توزيعها بشكلٍ مجاني غاية في دعم المؤلف وتشجيعاً له، وكذلك لما يعكس هذا التوجه من رغبة إنسانيَّة في اكتشاف القيمة الماديَّة والثقافيَّة للكتاب الصادر.
وتتفق دور النشر وأصحاب المكتبات في أن أهميَّة الكتاب لا تتمحور في نشر الثقافة والمعرفة فقط، بل أيضاً لتحفيز النمو الاقتصادي وتنشيط التجارة في هذا المجال، فصناعة الكتاب تدعم سلسلة إنتاجيَّة واسعة تشمل المؤلفين والناشرين وموزعي الكتب، وكذلك الجهات المرتبطة بالطباعة والتسويق ومن ثم فإنَّ الأموال الناتجة عن بيع الكتب تدعم الاقتصاد من خلال العرض والطلب، وهو ما يعني أنَّ الكتاب الورقي يجمع بين القيمة الثقافيَّة والمنفعة الاقتصاديَّة.
العديد من المؤلفين والناشرين تناولوا أهميَّة بيع الكتب بدلاً من توزيعها بهذه الطريقة المبالغ فيها وأقصد (بشكل مجاني)، ومنهم "الناشر والمحرر جيسون إبستين، الروائي والشاعر لويس بوزبي، الشاعر المكسيكي غابرييل زيد، الكاتب نيكولاس أندرو باسبانيس، الكاتب خورخي كاريون، خبير البيع بالتجزئة الكاتب باكو أندرهيل"، وغيرهم الكثير. أما في عالمنا العربي فطرح العديد من الأدباء والنقاد تلك الأسباب التي تلامس جوانب ثقافيَّة واقتصاديَّة لبيع الكتب وتأثيرها في المجتمع، ومنهم المفكر والناقد د.عبدالله إبراهيم، والكاتب والشاعر علي عبد الله خليفة.
إنَّ فكرة عدم قدرتنا على الحصول على الكتاب الورقي بشكل مجاني يخلق نوعاً من المنافسة بين المؤلفين في إنتاج أهم وأعظم ما لديهم، بل ويدفعهم للبحث والتقصي غاية في تقديم كل ما هو ممتعٌ وجديدٌ ومقروء، بدلاً من الاستنساخ والإعادة لأفكارٍ لمؤلفين غيرهم، كما أنَّ اقتناء الكتاب يعني أنْ اختار أفضل ما أريد قراءته من حيث الفكرة والأسلوب.
ثقافة شراء الكُتب ليست عمليَّة سهلة غايتها مجرّد الشراء، بل دوافعها عميقة تربط بين عناصر مهمة تتعلق بالجمال الحسي ومتعة الارتباط العاطفي عند الاحتفاظ بكتاب ورقي ولمس أوراقه وتصفحها، فضلاً عن المعرفة، وكذلك للتعبير عن الهويَّة، إذ يختار القراء غالباً ما يعكس توجهاتهم وانتماءاتهم.
وخلاصة ما يمكن أنْ نقوله هنا، إنَّ تقديم الكتاب بشكل مجاني يولد حلقة مفرغة تؤدي إلى ضياع الجهد، ويخلق ثقافة مشوهة، بينما سعينا إلى شراء الكتاب بقيمة ماديَّة مهما كانت مقبولة أو رمزيَّة تعطي دافعاً لكلّ من يرتبط بالكتاب وصناعته.