عبد الحسين ماهود 

أيامٌ لا تنسى قضيتها في مدينة يمتدُّ تأريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وجاء ذكرها في الكتاب المقدس. لا زالت المدينة محتفظة بحواريها القديمة وأزقتها المتشابكة على أرضٍ متموجة وفضاءٍ هادئ، وبنقاوة روح أبنائها وقدرتهم على التفاني في خدمة من يفد إلى أرضها لأي غرضٍ كان، وهم الكلدان النساطرة بلغتهم الكلدانيَّة الآشوريَّة.

إنها القوش بكنائسها وأديرتها ومقاماتها المسيحيَّة التابعة إلى الطائفة الكاثوليكيَّة الشرقيَّة، هي ناحية تابعة إلى قضاء تلكيف في محافظة نينوى، تبعد عن الموصل مسافة 50 كيلومتراً شمالاً وتقعُ على سلسلة جبال تفصل بين الموصل ودهوك، بلغ عدد نفوس كامل القوش 64.53 نسمة حسب إحصاءات 2014 ومنهم ستة آلاف نسمة داخل القوش وراح العدد يتناقص إبان أحداث الإرهاب "داعش" بسبب الهجرة حتى وصل إلى ثلاثة آلاف وخمسمئة نسمة. 

كنت محظوظا وأنا أرافق بعثة سينمائيَّة قدمت إلى القوش، بعد أنْ وجدت ضالتها بأماكن في المدينة تطابق أماكن في مدينة أوروبيَّة تجري فيها أحداث فيلم روائي قصير تتولى البعثة تصويره، وذلك عن قصَّة حقيقيَّة وقعت بين الناصريَّة العراقيَّة والمدينة الأوروبيَّة، الذي رسخ في ذهني وأنا أعايش ما يجري لهذه البعثة أنْ ألتقي بنموذجٍ للقوشي بهيئة امرأة حسناء بقوامٍ رشيقٍ وأخلاقٍ تحمل خصال القوشيين التي قلَّ نظيرُها. إنها السيدة لارا يوسف زرا (1982) مديرة ناحية القوش. وربما هي أول امرأة تتقلدُ هذا المنصب في العراق، وقد شغلته منذ أكثر من سبع سنوات. ما أنجزته في القوش رسم وتنفيذ التصميم الأساسي للمدينة وتوزيع الأراضي السكنيَّة للقوشيين حصراً، لعدم جواز غير القوشيين امتلاك الأرض في القوش، تأكيداً على أنْ تكون القوش للقوشيين من أتباع الكنيسة الكلدانيَّة الكاثوليكيَّة.

أما عن افتتاحها لدار المحكمة التي تعدُّ دائرة حكوميَّة غير فاعلة، وأنَّ القاضي فيها يمرُّ بفترة نقاهة لأنها نادراً ما تستقبل المراجعين، فالقوشيون مسالمون ومتعاطفون مع بعضهم وليس لديهم نزاعاتٌ تحيلهم إلى مراجعة المحاكم، ويحصل المولود في القوش بيان ولادة حال ولادته، من دون اللجوء إلى المحكمة للحصول على حجة ولادة.

استقبلت السيدة لارا مديرة ناحية القوش أعضاء البعثة السينمائيَّة في مرحلة كشف مواقع تصوير الفيلم، وأعلنت لهم دعمها لمهمتهم وتعهدت بتذليل الصعاب التي تواجههم وتابعت مراحل التصوير حتى أنها حضرت التحضير لتصوير مشهدٍ من الفيلم، ووقفت أمام آلة التصوير حتى آخر لقطة منه، ثم طلبت اللقاء بهم بعد انتهاء مهمتهم. وكان لها ما أرادت، إذ استقبلتهم في مكتبها بجوٍ حميمي يخلو من الرسميات ويضجُّ بقيمٍ عالية من الأخلاق، هي أخلاق القوشيين التي لم نر لها مثيلاً في بقاع الأرض. 

في استقبالهم تقول: إننا عراقيون أهل، وإنْ لم تجمعنا قرابة ومن الواجب علينا نحن القوشيين أنْ نرحب بضيوفنا، أم عن القوشيين من أهلها فلقد كانت وقفتهم مشرفة. لقد استحالت بيوتهم محطات استراحة لتشرع أبوابها لاستقبال الوافدين من أعضاء البعثة السينمائيَّة استقبالاً قد لا يخلو من موائد عامرة وتمَّ اتخاذ البيوت والكنائس والأزقة مواقع للتصوير. وتطوع الشباب القوشي من كلا الجنسين لخدمة العمل حتى أنَّ بعضهم مثل في أدوار ثانويَّة أو اشترك في الكومبارس عبر تظاهرة لم تر القوش لها مثيلاً. وعندما شدَّ أعضاء البعثة السينمائيَّة رحالهم بعدد انتهاء مهمتهم بنجاح اشتغلت لغة المشاعر بقوة معبرة عن لحظات اجتاز القوشيون فيها روتينهم اليومي وحمل الوافدون ذكرياتهم عن مخلوقات من معدنٍ نادرٍ يزهو بالأمن والسلام والتفاني في خدمة الغير.

من المعلوم أنَّ البعثة السينمائيَّة أوفدتها دائرة السينما والمسرح إلى القوش لتنفيذ مهمة تصوير مشاهد من فيلم "تيريزا" لمخرجه فاضل ماهود.