أنا أيضا أفكّرُ إذنْ أنا موجودة

ثقافة 2025/04/07
...

  ترجمة: كامل عويد العامري


في مقدمتها لكتاب (أنا أيضا أفكر إذن أنا موجودة) لـ إيلودي بينيل، منشورات ستوك 2024 تقول شارلوت كاسيراخي: أثناء دراستي للفلسفة، كنت أشعرُ بالصدمة في كثير من الأحيان بسبب التصريحات المعادية للمرأة التي أدلى بها روسو وشوبنهاور ونيتشه. ولأنهم كانوا عقولا لامعة، فقد آلمني أكثر أن أرى أنهم أيضاً عملوا بشكل منهجي على إهانة المرأة والتقليل من شأنها.. ولكن السؤال: أليس الفيلسوف هو الشخص الذي يستطيع أن يرتقي فوق أحكام عصره ليعتبر جميع البشر متساوين من حيث الكرامة الأخلاقيَّة وفي قدراتهم الفكريَّة على التأمل والحكم والتفكير؟. 


تحاول إيلودي بينيل سرد الحكايات الشخصيَّة، وإظهار شكوكها ونقاط ضعفها، والاعتراف بصعوبة الشعور بالشرعيَّة كأنثى فيلسوفة: فنحن نعلم أنّنا سنُؤخذ على محمل الجد بشكل أقل، وسنُوضع على جانب "المفكرين"، و"نساء الأدب" وليس الفلاسفة. وعلينا أن ندرك مدى ضرورة الدفاع عن هذا "التراث الفلسفي" ومشاركته مع أكبر عدد ممكن من الناس. وهي تندد بالمنطق الأيديولوجي المحض الذي ساد قروناً من استبعاد المرأة من السلطة الفلسفيَّة، كاستبعاد شخصيات مثل إليزابيث من بوهيميا أو كريستينا من السويد من التراث الفلسفي الأوروبي، بحجة أنّهما كانتا مجرد "كاتبات أدب". وتشير أيضاً إلى أن إحالة النساء إلى الاحتمالات - إلى أجسادهن، إلى حياتهن كنساء، إلى رحلتهن في سيرتهن الذاتية - يسمح لنا في كثير من الأحيان بإغلاق الباب أمام الفلسفة. ومع ذلك، وبعيداً عن التقليل من مكانة هؤلاء الفيلسوفات في الواقع، تُظهر إيلودي بينيل كيف هززن أسطورة الفيلسوف المتربّع في برجه العاجي. 


أين النساء؟

(حتى الآن ظلت إمكانيات المرأة مقيّدة ومفقودة أمام البشريَّة).

سيمون دي بوفوار، الجنس الثاني


يبدو أنَّ تاريخ الفلسفة الغربيَّة وكأنَّه نادٍ للأولاد: ففي عام 2019، من بين 84 اسماً في قائمة المؤلفين الذين أدرجوا في مناهج السنة النهائيَّة من المدرسة الثانويَّة، هناك 5 فقط من الإناث. وقد كرم المجلس الأعلى للبرنامج حنه آرندت، وسيمون دو بوفوار، وسيمون ويل، وإليزابيث أنسكومب، وجين هيرش. وفي عام 2003، أي قبل سبعة عشر عاماً، كانت أرندت وحدها هي التي حصلت على هذه التكريم.

ويعود ذلك إلى أنَّ وصول المرأة إلى التعليم، والمعرفة الأدبيَّة، ومن ثمَّ إلى الفلسفة، إلى التقدم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. ولذلك فإنَّ الاعتراف بهنَّ باعتبارهنَّ فلاسفة يستحققن هذا الاسم لا ينبغي أن يحتاج إلى توضيح.

فلْنحذر من هذا المنطق

لأنَّ العلاقة السببيَّة بين الوصول إلى التعليم والوصول إلى المعرفة ليستْ واضحة على الإطلاق. لقد استغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل أن تتمكن الفتيات من تعلّم الفلسفة. لمدة طويلة، وظل هذا التخصص حكراً على الرجال، وحتى اللواتي تميّزن فيه وجدن أنفسهن منبوذات خارج المؤسسة، محرومات من الاعتراف الذي يستحققنه.

وهذا هو حال ليونتين زانتا، أول امرأة فرنسيَّة تدافع عن أطروحة دكتوراه في الفلسفة في جامعة السوربون عام 1914. ورغم أنّها تلقت تعليمها في هذا التخصص على يد والدها، الأستاذ الجامعي، إلا أنّها لم تحصل قط على وظيفة مدرسة فلسفة في الجامعة، لأن هذا الموضوع لم يكن يُدرَّس بعد في المدارس الثانويَّة للبنات. بينما كانت تُكرّس نفسها للتدريس في المعاهد الخاصة، ألفت ليونتين عدة روايات متخذة كشخصية رئيسية طالب فلسفة تبرأتْ منه المؤسسة واختار الاستسلام. اختيار حزين… ولكن هل كانت هناك اختيارات أخرى؟.

ونشهد هذه الأيّام اهتماماً متجدداً بنساء الماضي الشهيرات. وسواء في الأدب، أو الموسيقى، أو السينما، أو التاريخ، تزدهر مختارات تضمُّ أسماءً نسائيَّة عظيمة تشكّل تراثنا: كما في السلسلة القصصيَّة المصورة ("السراويل القصيرة" بقلم بينيلوبي باجيو في مجلدين - النساء اللاتي يفعلن فقط ما يردن.)، والرائدات: 18 قصة لنساء لم يخفن من التحدي" لجوستين ديفرانس و"لا مرئیات ولا معروفات" لجورجيت ساند، وهي مجموعات تستجيب لهذه الضرورة.

عندما أنشأتُ نادياً للكتاب مع زميلتي في الفلسفة ماري بيير تاشيه حول موضوع النساء الكاتبات والفيلسوفات والمبدعات، لم يكن لديّ أدنى فكرة أنَّ عملنا سيصبح عمل الكثيرات بعد عشرين عاماً. كان العام 2003، ولم تكن الحركة النسوية قد حظيت بالكثير من الصحافة. منطقياً، أطلقنا على موقعنا الإلكتروني اسم "من يخاف من النسويَّة"، وتحول معرض صورنا الذي كنّا نضيف إليه شهراً بعد شهر إلى قاعدة بيانات رائعة نستقي منها مراجعنا ونغذي بها تحليلاتنا.

كان على كل منا أن يتخلى عن الفلسفة، ولكننا عدنا إليها، سواء بكتابة مقال عن الافتراضات المسبقة لأدبنا بعنوان (وضع حد للعاطفة: الإساءة في الأدب)، أو من جهتي، باجتياز امتحانات الفلسفة مرة أخرى وأخيراً بتدريس المادة.

إذا كان القرنان العشرون والحادي والعشرون قد تميّزا بالتقدم في مجال حقوق المرأة والوصول إلى المعرفة في الغرب، فهل لم يبقَ شيء ليكتب عن الفيلسوفات النساء؟، هل عاد التاريخ إلى الوراء؟، على العكس من ذلك. تجادل إيزابيل ستينجر وفينسيان ديسبريت، في كتابهما "صانعات التاريخ"(Les Faiseuses d'histoire)، بأنَّ النساء تمكّنّ من دخول الفلسفة من دون أي مشكلات خاصة، متناسيات نضال من سبقهن، لكنهما تشيران إلى مدى خداع هذا الانطباع وزواله في نهاية المطاف.

لا ينبغي لنا أن نكون ضحايا لفقدان الذاكرة نفسه. عندما تقدمت لامتحان مادة الفلسفة في عام 2021، فرضت على نفسي تحدي الاستشهاد بشكل منهجي بامرأة ورجل في كل قسم فرعي من أطروحتي. الموضوع في المنهج هو السعادة. كُنَّ التحدي أسهل مما كنت أعتقد. لكن عندما وصلت إلى النتائج، خشيت أن أعاقب على جرأتي بشدّة.. كنت قد بدأت أتمنى أن أصادف مدققة لغوية بدلاً من مدقق!، في النهاية، كانت علامتي مناسبة تماماً فقبلت.. لكن لا يسعني إلا أن أشير إلى أنه لم يكن هناك شيء واضح في نهجي. سنوات دراستي في الجامعة، كانت الفيلسوفة الوحيدة التي قيل لي عنها هي إليزابيث أنسكومب. ولا تزال أسماء الفيلسوفات من النساء نادرة في المناهج الجامعيَّة وموضوعات الأطروحات في الفلسفة.

لنذهب أبعد من ذلك. هناك بالفعل بعض النساء المعترف بهن رسمياً بين "فلاسفة الصف النهائي" في فرنسا، لكنهن لا يشكلن سوى 5 من أصل 79 طالباً، هذا فقط في السنوات الأربع الأخيرة. فضلاً عن ذلك، فإنَّ المفاهيم التي يُطلب من الطلاب دراستها لا تسمح لهم بالتفكير على نحو كامل... كان يمكن الحديث عن أرندت للتفكير في الدولة، وويل لتحليل العمل، وهيرش للتفكير في الحرية، ولكن متى نذكر نظرية دي بوفوار حول العلاقة بين الجنسين؟، كيف يمكن تناول أزمة الثقافة التي طوّرتها أرندت في فصل من الفصول السبعة عشرة التي يجب دراستها في تسعة أشهر؟، وكيف يمكن أن ننصف نظرية أنسكومب الرائعة حول القصديَّة في حدود سنة دراسيَّة واحدة من المرحلة الثانويَّة؟.

إنَّ إدخال أسماء النساء أمرٌ محيّر: هل هو أمر سياسي، أو حتى تجميلي؟، لماذا نضع في المنهج نساء لا يمكن معالجة أفكارهن؟، على هذا السؤال المشروع نقترح هذه الإجابة: إذا كان منهج السنة النهائيَّة لا يسمح لنا بالاقتراب من فكر الفيلسوفات النساء، فذلك لأنَّ فكرهن غالباً ما تطور على هامش المسارات التقليديَّة للفلسفة. لقد منحت النساء المستبعدات من الحقل الجامعي أو من اعتراف أقرانهن، أنفسهن الإذن بالتفلسف بحرية كبيرة، من حيث شكل كتاباتهن واختيار المواضيع وجرأة الأفكار التي يدافعن عنها.

إنَّ هذا التحليل، الذي يتطابق مع الشعور الذي عبر عنه الفلاسفة الذين حاورتهم إيزابيل ستينجر وفينسيان ديسبرت، ومع الحدس الذي حدده محررو كتاب "23 مفكرة لعام 2023" وهو مجموعة دراسات كتبتها نساء فيلسوفات وكاتبات ومؤرخات، بهدف تسليط الضوء على قضايا محددة في عصرنا. صدر الكتاب في 6 يناير 2023، ويتوافق مع مفهوم دونا هاراواي عن "المعرفة الوضعية"، الذي يرى أنّنا لا نفكّر أبداً من أي مكان وأن تغيير موقفنا يعني تغيير وجهة نظرنا. هذا الموقف في الحقل الفلسفي، الذي ألمح إليه البعض لم يجرِ تطويره ودعمه والدفاع عنه على نحو كامل.

يجب علينا أيضاً أن نستخلص النتائج المترتّبة على ذلك من خلال عرض الطرق التي قاومت بها هؤلاء النساء العقبات التي واجهنها ومن خلال عرض أفكارهن حول القضايا الرئيسة اليوم بشكل واضح وموجز وسهل المنال. لأنَّ عمل هؤلاء الرائدات اليوم هو الأكثر حسماً وابتكاراً وإلهاماً لفهم عالمنا وتغيراته.

في الواقع، يكفي أن نلتفت لنكتشف قوائم بأسماء فيلسوفات: ففي الولايات المتحدة، هناك عدة مجلّدات من المختارات لفيلسوفات نساء، في حين أن المجلد المذكور أعلاه الذي يضم 23 مفكرة من النساء لعام 2023 لا يضم سوى امرأتين فرنسيتين من أصل ثماني فيلسوفات. وتبدو المفارقة واضحة عندما نتذكّر أنَّ الحركة النسويَّة قد أعيد إحياؤها إلى حدٍّ كبيرٍ في الولايات المتحدة من خلال كتاب "الجنس الثاني" لسيمون دي بوفوار.

هل حقاً لا يمكن للمرأة أن تتفلسف إلا عبر المحيط الأطلسي؟، ومع ذلك فإنَّ الباحثين القائمين على المختارات الأنجلوسكسونية يمنحون مكانة كبيرة للفيلسوفات الفرنسيات والبريطانيات والألمانيات من العصور القديمة إلى يومنا هذا، في كل مجال من مجالات الفكر، من دون أن يستثنوا فلسفة الدين وفلسفة الهوية وفلسفة الفن والأدب... هل نحن عاجزون عن الاعتراف بثرواتنا؟ وعاجزون عن استخدام ثروات الآخرين؟. 

قبل بضعة أشهر، في يوم ظهور نتائج البكالوريا، جاءت تلميذاتي في السنة النهائيَّة لمقابلتي. قلن إنّهن استخدمن مدوّنتي الصوتيَّة للفلسفة للمراجعة، وأخبرتهن أنني بصدد تأليف كتاب عن الفيلسوفات النساء. فأجبن بحماس: "أوه نعم، لأننا كفتيات كنا نتساءل أين نحن من كل هذا!، إذا كان للفلسفة أن تعيش، فعليها أن تتجدد: لنكن في الطليعة بدلاً من التخلّف، ولنكن على استعداد للاستفادة من جميع القوى الحيويَّة في صفوفنا".

لتحقيق هذا البرنامج، نحتاج أولاً تحليل استراتيجيات الدفاع التي اعتمدتها النساء لدخول مجال الفلسفة: نعم، على الرغم من العقبات، ولأنّهن عنيدات، فقد تفلسفت النساء في كلّ شيء وفي كل وقت!، ثم سننظر في مساهمتهن الفعليَّة في القضايا الحاسمة في القرن الحادي والعشرين: العمل، والعدالة الاجتماعيَّة، والهوية، وحدود الإنسان. وبعد أن نصل إلى هذه الاستنتاجات، سيكون من الممكن في النهاية فهم كيف أن تعريف الفيلسوف والفلسفة هو الذي تعيد المرأة ابتكاره حتى في حياتها الخاصة. 

الهدف من هذا الكتاب هو توعيتنا بأنَّ الفيلسوفات النساء كنّ موجودات على الدوام، والالتقاء بفكرهن الذي كان هامشياً في الماضي ومركزياً اليوم، وفهم كيف أحدثن ثورة في موقف الفيلسوف وتعريف الفلسفة. هؤلاء النساء اللاتي كُنّ في الماضي على هامش الفكر، يجدن أنفسهنّ اليوم أساسيات في النقاشات التي تضع هوامش الأمس في قلب النقاشات الحالية. بهذا المعنى، نحن نشهد ثورة جديدة في التفكير، حيث نجد أنفسنا في قلب التغيير في الحضارة وانقلاب في ممارساتنا وقيمنا. ومن خلال إدراكنا لوجود وأهمية المرأة الفيلسوفة، فإننا ندعو إلى نهضة ثانية، نهضة إنسانية وديمقراطية ومساواة كاملة.

إنَّ تثمين تفكير المرأة لا يعني القول بأن تفكيرها أنثوي بطبيعته: إنّه يعني اتخاذ نهج مادي والاعتراف بحقيقة أن الحواجز والاضطهادات والعقبات التي وُضعت أمام المرأة عندما يتعلق الأمر بالتفكير على نحو عام وبعض الموضوعات خاصة، قد دفعتها إلى تناول مسائل أخرى وتبني مواقف أخرى من أجل التفلسف على حدٍّ سواء. لأنَّ المرأة لطالما امتلكت العناد في المطالبة بكرامتها الفكريَّة وتحرير نفسها من دور الجسد-الموضوع الذي أُسند إليها. 

إنَّ استكشاف تاريخ الفلسفة منذ العصور القديمة وحتى القرن العشرين، هو تاريخ الغرب الذي نستكشفه ونعيد النظر فيه، لدرجة أنّ البحث عن الحكمة والحقيقة التي تميزت بها الحضارة الغربية يتسم بالتحيّز الجنسي وعدم المساواة اللذين لا يذكران اسمهما، وهي نقطة عمياء في وعينا الذي يُفترض أنّه مستنير.

 ومن سمات هذا التحيّز الجنسي، وليس أقلها، اختزال قيمة المفكرات في همٍّ نضاليٍّ واحد، واختزال أعمالهن الفلسفيَّة في قسم "المقالات النسويَّة" أو في مسألة الجسد: لنراهن على أن هذا الكتاب نفسه لن يُختزل في ذلك!، لأنَّ الفلسفة، وحضارتنا بأسرهما، على المحك في هذا الوعي الجديد.

لتحقيق الاعتراف بهؤلاء النساء، لن نستخدم، كما يحدث غالباً، أسماءهن الأولى أو أسماءهن الكاملة، ولكن بمجرد التعرّف عليهن، سنشير إليهن بأسماء عائلاتهن. لأنّني لستُ صديقة لسيمون دي بوفوار أكثر مني لـميشيل دي مونتين، وبما أنه لن يخطر ببالي أن أطلق على سبينوزا اسم "باروخ"، فلن أطلق على فايل اسم "سيمون".

بهذا الكتاب نؤكد أنَّ المرأة الفيلسوفة كانت موجودة منذ الأزل، وأنّها مستقبل الفلسفة إذا ما تجرّأنا على قبولها. إنّنا ندرك أن المرأة تحتاج إلى من سبقهن لبناء أنفسهن، وأن تراثنا الفلسفي النسائي بحاجة إلى اكتشافه والدفاع عنه الآن أكثر من أي وقت مضى. ونؤكد أن هذا التراث موجه للرجال أيضاً، وأنّنا سنستفيد جميعاً من خلال التفكير معاً. ففي النهاية، أليس الحوار هو أساس الفلسفة؟.