محمد صابر عبيد
يدل فعل (المغامرة) في معنى أساس وجوهري من معانيه على التجاوز والاختراق والتجريب، بكل ما تنطوي عليه هذه المفاهيم من دلالات ورؤى وقيم وقدرات وأفعال ونتائج، ومما لا شك فيه أن المغامرة استناداً إلى هذه المعطيات تندرج في إطار الأعمال الحيوية الخلاقة التي بوسعها أن تضيف دائماً، ويرتبط فعل المغامرة هنا بالتحقق والإنجاز، إذ لا مغامرة من دون نتائج واضحة وساطعة على الأرض، تستطيع أن تكرس المفهوم وتعلي من شأن الفكرة أمام الجمهور.
ترتبطُ المغامرة كثيراً بالتطلّع وسعة الأفق والإيمان بالأمل وبقدرة الذات البشريَّة على تجاوز الحدود وصنع المعجزات، فضلاً عن استغلال كامل الطاقة الإنسانيَّة في استنهاض كلّ قواها واستنفار إمكاناتها من أجل الوصول بفكرة المغامرة إلى مستوى الإنجاز والتحقق. إنّها فكرة تقوم على أعلى تمثّل لقيمة الإنسان وخطورة وجوده في الحياة، بوصفه الحامل المركزي لمعنى الحياة، والفاعل الأول في جعلها ممكنة وقابلة للتعاطي والعيش، ولا يتكرّس ذلك من دون الإحساس بقيمة المبادرة الخلاّقة التي يجب أنْ يتحلّى بها الإنسان وهو يقودُ مسيرة الحياة ويمنحها معناها الحقيقي. وإذا كانت فكرة المغامرة على هذا الأساس ترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بتخلّق الرؤى والمظاهر وتجلّيها على الأرض، على نحوٍ بصريّ وحسّيّ وتأمليّ ملموسٍ وقابلٍ للتعاطي معه والإفادة منه وتوظيفه في مجالاتٍ كثيرة، فممَّا لا شك فيه أنَّ ارتباطه بمفهوم الجماليَّة يعدُّ تحصيلَ حاصل، إذ لا مغامرة يتهيّأ لها هذا المعنى الغزير من دون أنْ ترافقها رؤية جماليَّة تدعمُ مجالها الحيوي وتؤسس لقيمها في الرؤيا والمنظور.
تتكشّف من هنا الخيوط المعرفيَّة والرؤيويَّة والثقافيَّة والفنيَّة التي تربط بين فكرة المغامرة ومعنى الجماليَّة، إذ إنّ الجماليَّة في معنى بؤريّ من معانيها هي تحقيق العنصر الفني في التجاوز والاختراق والتجريب، حيث تسهم إسهاماً فعلياً وواضحاً وعميقاً في تحقيق الإدهاش والمتعة وإنجاز فضاءٍ جديدٍ، فضلاً عن التطلّع الدائم والمستمر إلى معطى (عابر للمعنى) يتوفّر على حساسيَّة جديدة تنعشُ فضاء القراءة، وتشرك القارئ في التمتّع بجماليات منجز المغامرة.
يمكن النظر هنا إلى مفهوم (الذوق) وما يتكشّف عنه من آليّاتٍ وتقاناتٍ ورؤى وتمثّلاتٍ ودلالات، بوصفه قدرة خلاّقة ونوعيَّة على النظر والتمييز والانتخاب والقراءة، قادرة على حرث المفاهيم وإظهار محتواها واستثمار كفاءاتها، على أنْ يتحلّى المفهوم هنا بقدرٍ معيّنٍ من المنهجيَّة الواجبة، من أجل أنْ تشتغل الآليَّة على حساسيَّة دمج صوفيَّة الفكرة وتطلّعها المثالي بواقعيتها الحسيَّة ونموذجها الإجرائي. إذاً الجماليَّة على وفق هذا التشخيص التعريفيّ والمفهوميّ والاصطلاحيّ تنفتحُ على معنى شاسع، يمكن أنْ يتمثّلَ ـ بكل بلاغة واقتصاد وتكثيف وتحديد وتركيز وتبئير، بأنه (تصوّرٌ ثقافيٌّ ورؤيويٌّ وفنيٌّ راقٍ للعالم).
النصُّ الروائي الذي يحظى بهذه الإحاطة القرائيَّة المتصّلة بمفهومي الجماليَّة والمغامرة في هذا السياق، يتجّه في تشكيل أساسٍ وجوهري من تشكيلاته إلى (بنيويَّة النص)، بالشكل الذي يحقق التوسع نحو المجال الثقافيّ لا النصّي الصرف، على النحو الذي يقدّم صورة أخرى لبنيويَّة النصّ تنفتح على المجال الثقافيّ المرادف والحاضر في فضاء النص وطبقاته وبطاناته. ويمكننا في هذا السبيل المنهجي والرؤيوي، الحديثَ عمَّا يمكن أنْ نصطلحَ عليه هنا بـ (المجال الروائي)، الذي يحتوي النصّ بصورته البنيويَّة النصيَّة من جهة، وما يحيط به من تخوم وحدود وفضاءات محيطة ترسم صورته الكليَّة وتسهم في إنشاء معماره وهيكله وكونه من جهة أخرى، وهو يقبل قراءة احتوائيَّة وكليَّة لا تتوقف عند عتبات النص بصورتها البنيويَّة شديدة التركيز على المجال الكتابي النصّي حصراً. وربما يكون للطبيعة الأجناسيَّة للنص دورٌ مهمٌ في تحديد الطبيعة الخاصة للقراءة، إذ إنَّ مجال المغامرة في النصّ الروائيّ أوسع من مجالها في النصّ الشعريّ والقصصيّ، ذلك أنّ العالم الروائيّ عالمٌ يتّسمُ بالكليَّة والشمول والتنوّع والتعدديَّة والكونيَّة، على النحو الذي يجعل منه فضاءً رحباً للمغامرة والتجريب وكسر الأطر.
وكلما توسعت الرواية في استغلال معطيات الفنون الأخرى تمكنت من فتح مجال المغامرة على نحوٍ أكبر، بحيث يتحتّم عليها باستمرار تحدّي المنجز وتجاوز الموروث، والسعي دوماً لبعث طبقات ومساحات جديدة غير مستغلة وغير محروثة للمكان والزمن والحدث والشخصيَّة، فضلاً على التلاعب بهما من أجل تطوير الرؤية السرديَّة وانفتاح حدودها وتوسيع أفقها، ومحاولة اكتشاف أبعادٍ جديدة للشخصيَّة الروائيَّة، والعمل الجاد على تطوير فكرة السرد بمعانيها المتعددة، وإنعاش الحوار وإثراء تقاناته، ومضاعفة طاقة الوصف أيضاً. ومن الأمور المتاحة في هذا السبيل لتطوير مصطلح (المجال الروائي) السعي إلى استغلال كيمياء العين القارئة، من أجل صناعة مشهدٍ يجعلها قابلة لاستعمال آلياتها كاملة وتحقيق قراءة بصريَّة تدعم القراءة التأمليَّة والتصوريَّة والتخييليَّة،
ومن ثم الاجتهاد في تفعيل الإيقاع الروائي بكل مستوياته واستغلال إمكاناته.
أما أسلوبيَّة التعبير وارتباطها الجماليّ بتقانات الكتابة فهي من أهم القضايا الفنيَّة التي يجب أنْ تحظى بأهميَّة كبيرة في بناء المجال الروائي وإنشاء حساسيته، إذ يمكن تفعيل أسلوبيَّة التعبير وتطوير تقانات الكتابة الجماليَّة، عبر الارتفاع بحساسيَّة التصوير المشهدي وإثارة إيقاع الحدث، نحو خطابٍ لغوي خصبٍ في إنشائيته، وغزيرٍ في تعبيريته، وثريّ في دلالته، ومتعدّدٍ في رمزيته. ومن أجل أنْ تصلَ القراءة إلى مرتبة المغامرة فعليها أنْ تجتهدَ، وتقترحَ، وتحرّضَ، وتثيرَ، في إطار اعتماد منهجيَّة جديدة لقراءة حرّة ورحبة للنصوص، لا تدين بالولاء لأكاديميَّة المناهج ومدرسيتها على نحوٍ صرفٍ وجامدٍ يربك النصوصَ ويشوّه الفضاء النقديّ لمعرفيَّة المناهج، بل يسخّر الروح المنهجيَّة والفضاء الرؤيويّ لخدمة رحابة القراءة وحريتها في تمثّل نوعيّ للنصوص، على النحو الذي تستطيع فيه أن تنعش آمال النصوص بالحياة من جهة، وأن تقدّم نصّاً نقدياً يرقى إلى مستوى حضور النصّ الإبداعيّ من جهة أخرى، بحيث يتلقّى قارئ النصّ النقديّ المقارب للنصّ الإبداعيّ نصّين جماليين في آنٍ معاً، النصّ الإبداعيّ من إنتاجه الجديد أو إعادة إنتاجه في القراءة، والنصّ النقديّ المضاهي للنص الإبداعيّ.