باسم فرات
"الضفة الخضراء البعيدة" هذا الكتاب هو رحلة مؤلفه عقيل منقوش من مدينته كربلاء، وأعوام دراسته الجامعيَّة في بغداد، وخروجه نحو الصحراء، ليقضي فيها ثلاث سنوات من شبابه، في مخيم "رفحاء"، ثم وصوله في شهر أيّار من العام 1994 للـميلاد إلى أستراليا.
في الكرادة، وسط بغداد، التقيت بالناشر والشاعر أحمد هاشم صاحب "دار قارات للنشر"، وأهداني نسخة من "الضفة الخضراء البعيدة"، مع عنوان ثانوي "سيرة تشبه النص المفتوح" للشاعر "عقيل منقوش"، وتمَّ تصنيفه سيرة روائيَّة، بحسب ما جاء في الصفحة الأولى.
باعتقادي، فإنَّ هذا أول كتاب توثيقي يصدر عن تجربة اللاجئين في صحراء رفحاء "الـمملكة العربيَّة السعوديَّة". قام الـمؤلف بتغيير الأسماء ابتداءً باسمه، إذ أطلق على نفسه اسم "تموز بن عربي"، وكذلك فعل مع أصدقائه الخمسة عشر، الذين تفرقوا بين بلدانٍ وقاراتٍ مختلفة، ما بين أستراليا (4) والولايات المتحدة (5) وهولندا (4) والسويد (2).
بقيت تجربة لاجئي "مخيم رفحاء" مجهولة للعراقيين، وزاد الطين بلة، اللغط الذي حدث بسبب الـمخصصات الـماليَّة التي مُنحت لهم. يكشف الكتاب كثيرًا من الحياة الداخليَّة للمجتمع العراقي الـمصغّر في مخيم صحراء رفحاء، ولأنَّ مؤلّفه شاعر، فقد كان التركيز على النخبة الثقافيَّة الـموجودة في الـمخيم، هذه النخبة التي أرجو أنْ تحذو حذوَ عقيل منقوش، وتُدوّن ذكرياتها في لهيب سنوات الصحراء. إذ إنَّ قراءتي للكتاب، أوحت لي بأنَّ سنوات "رفحاء" تحمل من الآلام والمعاناة والترقّب، ما يجعلها مادة غنيَّة ومثيرة للكتابة السير – ذاتيَّة، أو الكتابة السرديَّة، وإنْ كنت أميل للنوع الأول، لأنها كتابة توثيقيَّة، لا يتدخل الخيال كثيرًا فيها، ما يفقدها ميزة مهمة، ألا وهي بوصفها "وثيقة" تُعتمد من قبل الباحثين والـمؤرخين.
حين كنت أقرأ بصفحات الكتاب، تذكرتُ وصولي إلى زي الجديدة "نيوزيلندا" لاجئًا، والأسابيع الستة التي قضيتها في مركز "مَـنْـغَـري" للاجئين، وكانت أسابيع قلقة، على الرغم من معرفتنا بأننا في هذا الـمركز للتأهيل، أي فحوصات طبيَّة كاملة، وتثقيفنا بقوانين البلاد وواجباتنا وحقوقنا، أي ما لنا وما علينا، وما هي إلا اثنان وأربعون يومًا، ويتم توزيعنا بين مدن البلاد. مع ذلك حدثت مشكلات سببها القلق، فكيف بلاجئي مخيم رفحاء الصحراوي؟ هؤلاء الذين قضوا ثلاث سنوات، وبعضهم أكثر من ذلك، في خضمّ بحرٍ من الرمال، تحيطهم الأسلاك الشائكة، يجهلون مصيرهم، وإلى أي بلدٍ سيذهبون، ومتى، هل بعد شهور؟ أم بعد سنوات؟.
إنَّي أتأمل تلك السنوات العجاف التي عاشتها مجموعة من العراقيين في أتون هجير الصحراء وزوابع رمالها، يغذيها القلق والأمل المرعب بالـمجهول، ومع تنامي العزلة والخوف من الـمصير الآتي، وجدَت الأحلام، بل قل الأوهام، لها مرتعًا عند الجميع، حتى حلموا بعد أنْ يتفرقوا أَيْدِي سَبا، أنَّهم سيلتقون في ليلة الحادي والثلاثين من كانون الأول 1999 على فجر الأول من كانون الثاني عام 2000، في باريس، تحت برج إيفل، فقد كانوا يحسبون أنَّ "الضفة الخضراء البعيدة"، هي الفردوس الذي كانوا ينتظرونه، واستوطن أحلامهم وأمانيهم.
في الوقت الذي كانت هذه الـمجموعة من العراقيين تتلظى بحرارة الصحراء وقسوتها، كان الحصار يُطبق فكيه على أهاليهم في الداخل العراقي، ومع تدهور العملة العراقيَّة المريع، صار مَن يقيم في الغرب أو "الضفة الخضراء البعيدة"، حين يرسل مبلغًا لأهله، حتى لو بسيطًا، فهو يُعدّ ثروة هَبَطتْ عليهم، وكان هذا دافعًا لهجرة أعدادٍ كبيرة من العراقيين نحو "الخلاص"، نحو الجنة الموعودة. في الوقت نفسه، لا يوجد مَن وصل إلى "بلدان اللجوء والهجرة"، وأخبر أهله ومعارفه عن السلبيات، وحقيقة هذه البلدان التي كان الفيلسوف "كارل ماركس"
(1818 - 1883) دقيقًا في وصفه لها وباستغلالها للطبقة العاملة.
ذكرتُ هذا، لأنَّ "عقيل منقوش"، أوضح، بدقةٍ، شعوره بالإحباط من هذه "الضفة الخضراء البعيدة"، وهو الشخص الذي لم يقبل على نفسه أنْ يكون عالةً على الـمجتمع، فيحصل على مساعدات "العاطلين عن العمل"، وهي التسمية العلميَّة والرسميَّة والدقيقة، لما يحصل عليه "اللاجئون"، وأضعها بين مزدوجتين، لأنَّ كل لاجئ حين يصل لهذه البلدان، لا يعود لاجئًا، إنما هو "مواطن عاطل عن العمل"، يتم تأهيله عبر توفير دورة أو دورات تعلّم لغة، ثم تتم مطالبته بالبحث عن عمل، في حين يتحايل آلاف "اللاجئين" على القانون، عبر طرقٍ لا أخلاقيَّة، مثل "التمارض" و"الانفصال الكاذب"، بالنسبة للـمتزوجين، فضلًا عن العمل بنظام النقد، أو ما يُطلق عليه "العمل بالأسود"، أو "العمل تحت الطاولة"، فيقبض مقابل عمله نقدًا، أي لا يُخبر دائرة الضمان الاجتماعي، ليقطعوا عنه "مساعدات العاطلين عن العمل".
عَمِلَ عقيل منقوش، عاملًا في مهنٍ ووظائف عدة، لسنوات، وسجَّلَ معاناته في بلد اللجوء "أستراليا"، وخيبة أمله، مثلما سَجَّلَ وأرشفَ حياة العراقيين في "مخيم
رفحاء" الصحراوي، وكيف تحول إلى ما يشبه البلدة الصغيرة، فقد امتلأ بالأسواق، إذ فُتحت مطاعم تقدّم الأكلات العراقيَّة الشهيرة مثل "الكباب العراقي"،
ورأس الخروف، وهي الأكلة المسماة "الباجة" وتُلفظ الجيم (تش)، فضلًا عن محال بيع الـملابس النسائيَّة والرجاليَّة، وبيع الأحجار الكريمة، والـمقاهي، ومحال بيع الـمرطبات والحلويات العراقيَّة، بما في ذلك
"الدَّهينة" الـنجفيَّة، وقد نَشِطَتْ حركة السحر والدجَل، ومزاعم قراءة الـمستقبل، وتخليص النفس من الأرواح الشريرة، وتحضير
الجنّ.
لا بُدّ من القول: إن الكاتب أنجزَ كتابًا يتميز بنكران ذاتٍ واضحٍ، لا سيّما في قسمه الكبير الخاص بسنواته العجاف في "مخيم رفحاء"، وهذا يُحسب له، ويمنح الكتاب مصداقيَّة ووثيقة شاهد عيان كان متفاعلًا في وسطه، وقد لا أجانب الحقيقة، حين أقول: إنَّ هذا الكتاب هو الوحيد الذي كُتبَ عن "مخيم رفحاء"، بصدق الوثيقة، وبنكران ذاتٍ لـمثقف عراقي، وجد من مسؤوليته، أنْ يكتبَ عن أصدقائه ومواطنيه في تلك المدة الزمنيَّة القاسية ما بين (1991 – 1994).