مقاربة تفكيكيَّة للخطاب الأدبي العربي

ثقافة 2025/04/07
...

  نهاد العزاوي


لطالما كانت البلاغة حجر الزاوية في تحليل النصوص الأدبيَّة، إذ كانت أداة مهمَّة لفهم استراتيجيات الخطاب والإقناع والجماليات اللغويَّة. ومع ذلك، أحدثت النظريات النقديَّة ما بعد الحداثيَّة، وخاصة التفكيكيَّة، تغييرًا جذريًا في مفهوم البلاغة. فلم تعد تُعدّ نظامًا مغلقًا للقيم الجماليَّة والمعياريَّة، بل أصبحت ساحة للصراع بين الهدم وإعادة البناء. هذه الثنائيَّة التي اقترحها جاك دريدا تفتح المجال لإعادة التفكير في البلاغة كنظامٍ ديناميكي يتعرض للتقويض وإعادة التشكيل وفقًا لمتغيرات القراءة والتأويل.

يمكن النظر للبلاغة بوصفها بناءً نظرياً قابلًا للهدم، وهذا الهدم يمكن أنْ يعدَّ كأداة نقديَّة في البلاغة، إذ يرى دريدا أنَّ كلَّ نصٍ يحتوي على تناقضات داخليَّة تجعله عرضة للتفكيك. ومن ثمَ، فإنَّ أي نظامٍ بلاغي، حتى وإنْ بدا متماسكًا، يحملُ في طياته عناصرَ تؤدي إلى تفككه.

من هذا المنظور، يمكن عدُّ البلاغة العربيَّة التقليديَّة – التي تعتمد على مفاهيم الفصاحة، والبيان، والبديع – خطابًا أيديولوجيًا يفرض معايير محددة على النصوص، الأمر الذي يجعلها عرضة للتفكيك.

وقد يكون تفكيك المصطلحات البلاغيَّة، فتحليل المصطلحات البلاغيَّة التقليديَّة مثل "الفصاحة" و"البلاغة" و"المجاز" يكشف عن طبيعتها التاريخيَّة والثقافيَّة التي لا تخلو من التحيز. على سبيل المثال، يرتبط مفهوم الفصاحة الذي اعتمدته البلاغة العربيَّة الكلاسيكيَّة بمعايير لغويَّة صارمة، الأمر الذي يجعله عرضة لإعادة التفسير في سياق النقد ما بعد الحداثي الذي يتحدى الأحكام المطلقة.

ويكشف التفكيك البلاغي أيضاً عن العلاقات السلطويَّة الموجودة داخل النصوص، إذ تصنف البلاغة التقليديَّة بعض الأساليب على أنها راقية وأخرى على أنها مبتذلة. ومن هذا المنطلق، فإنَّ قراءة النصوص البلاغيَّة من منظور التفكيك تتيح فرصة لتحدي هذه الثنائيات، مثل فصاحة- لحن وجزالة- ركاكة، ما يسهمُ في إعادة الاعتبار للأساليب التي تمَّ تهميشها.

هل يمكن تأسيس بلاغة ما بعد حداثيَّة؟

إذا كانت التفكيكيَّة تعملُ على تفكيك الهياكل التقليديَّة، فإنَّها في المقابل تتيح الفرصة لإعادة بنائها بطرقٍ مبتكرة. في هذا الإطار، يمكن تصور "بلاغة ما بعد حداثيَّة" تتجاوز القواعد الصارمة للبلاغة التقليديَّة، وتتبنى مبدأ "اللعب اللغوي" الذي أشار إليه دريدا، إذ يتحول النصُّ إلى فضاءٍ مفتوحٍ للاحتمالات التأويليَّة التي لا حصرَ لها. وهذا ما نسميه بلاغة متعددة التأويلات.

إنَّ إعادة صياغة البلاغة في إطار ما بعد الحداثة تعني أيضًا الاعتراف بأنَّ النصوص لم تعد تحمل معنى واحدًا، بل أصبحت تشكلُ شبكاتٍ دلاليَّة مفتوحة تتكون من تفاعلاتٍ وتناصاتٍ بين نصوصٍ متنوعة. وهذا ما يجعل البلاغة الجديدة تتقاربُ مع مفهوم "النص العابر للحدود"، إذ لا توجد بلاغة ثابتة، بل بلاغات تتغير وفقًا للسياق وطريقة التلقي. وبينما كانت البلاغة التقليديَّة تركز على الإقناع والتأثير، فإنَّ البلاغة في سياق ما بعد الحداثة تتجه نحو بلاغة التساؤل والاحتمالات المفتوحة. بمعنى أنَّ النصوص لم تعد تهدف إلى فرض معانٍ محددة، بل تسعى إلى خلق مساحات تفاعليَّة يشارك فيها القارئ في إنتاج الدلالة، الأمر الذي يجعل البلاغة وسيلة لاستكشاف المعاني بدلاً من تثبيتها. وهنا تتحول البلاغة من بلاغة الإقناع إلى بلاغة التساؤل.

ويمكننا القول إنَّ مقاربة البلاغة على وفق التفكيكيَّة تجعلها أكثر حيويَّة وديناميكيَّة، إذ تتحرر من قيود النظام المغلق لتصبح ساحة للتفاوض المستمر بين المعاني والقيم. وعن طريق عمليَّة الهدم وإعادة البناء، تتشكل بلاغة جديدة تتجاوز الثنائيات التقليديَّة، ما يتيح مساحة للعب والتأويل المتعدد. وهذا يعكس روح ما بعد الحداثة التي ترفض الثبات وتحتفي بالحركة والانفتاح.

إذ لا يقتصر المعنى على دلالة نهائيَّة، بل يتحول إلى شبكة معقدة من الاحتمالات التي تتغير وفقًا للسياقات والقراءات المتنوعة. وبهذا الشكل، تتحول البلاغة من مجرد نظامٍ معياري إلى ممارسة نقديَّة مفتوحة، تستوعب تناقضات الخطاب وتكشف عن طبقاته العميقة.

وتفرض هذه الرؤية التفكيكيَّة إعادة تقييم المفاهيم البلاغيَّة التقليديَّة، مثل المجاز والاستعارة والتشبيه، ليس فقط كأدواتٍ جماليَّة، بل كبنى دلاليَّة قابلة للتأويل وإعادة الاستخدام. ومن ثمَ، تصبح البلاغة مجالًا لإنتاج الدلالة بدلاً من مجرد وصفها، وتتحول من علمٍ قائمٍ على التصنيف إلى ممارسة نقديَّة تكشفُ عن التوترات والاختلافات داخل النصوص الأدبيَّة.

وبهذه الطريقة، يصبح الخطاب البلاغي فضاءً مفتوحًا للتفاعل، إذ لا توجد قراءة نهائيَّة أو تأويلٌ أحاديٌّ، بل تبقى المعاني في حالة تشكلٍ مستمرٍ، تتأثر بالزمن والتاريخ والثقافة. ومن هنا، يتجلى دور التفكيك في تعزيز انخراط البلاغة في الأسئلة الفلسفيَّة والفكريَّة الكبرى، الأمر الذي يعزز علاقتها بالتحولات الثقافيَّة والمفاهيم النقديَّة الحديثة.