في الثالث عشر من تموز الماضي تسلّمت تركيا الدفعة الثانية من المنظومة الصاروخية للدفاع الجوي الروسية المتطورة “أس 400” و سبق ان كشف التقرير السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن لعام 2018 أنّ كلّاً من السعودية وقطر أبدتا اهتماما بشراء منظومة “أس 400”، وهما على غرار تركيا دول حليفة للولايات المتحدة ومع ذلك توجهت لمنافستها روسيا وهو أمر ذو دلالة بالغة الأهمية. ومن ناحيتها حصلت مصر على منظومة صواريخ “إس ـ 300” الروسية التي تعد من الأنظمة المتقدمة عالميا. كما ان هناك ثلاث دول من حلف شمال الاطلسي هي اليونان وبلغاريا وسولوفاكيا تمتلك انظمة “أس 300” الروسية. وسبق ان اشترى العراق بقيمة مليار دولار طائرات هجومية روسية من طراز “سوخوي سو-25”، وعقد صفقة أخرى مع روسيا بقيمة 7 مليارات دولار، تضم مقاتلات ميج 35، وجرى تجهيز العراق بلواء مدرع متكامل. وكل هذه مؤشرات ذات دلالة، اذ تجري عملية تبدل التحالفات الاقليمية والدولية.
وبالعودة الى التقرير السنوي للمعهد فإنّه اشار إلى أن كلا من السعودية ومصر والإمارات العربية والعراق باتت تعتمد على طائرات من دون طيار صينية الصنع، ووفقاً لما نشرته صحيفة “تشاينا تايمز” الصينية فقد وقعت مصر على صفقة طائرات صينية متطورة “دون طيار”، من طراز “ASN-209”، وتزودت قطر بمنظومة قاذفات “SY-400” من الصواريخ الصينية قصيرة المدى. ويخلص التقرير للقول: إن الصين وروسيا أصبحتا تتحديان الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة وتجتذب حلفاءها، الأمر الذي باتت تداعياته ظاهرة على مناطق النزاع في دول الشرق الأوسط !!
إنّ عمق هذه التحولات الجيوستراتيجية الجارية حالياً في دول الشرق الاوسط تطرح انماطاً من التحالفات غير تقليدية وغير معهودة.. انها مستجدات تعد بمثابة تحديات لا سابق لها، وتثير أحداثها ومضامينها أسئلة على قدر كبير من الاهمية، أسئلة تتعلق بفعالية أو حتى بجدوى الأحادية القطبية وماهية ضوابطها في فضاء العلاقات الدولية الذي بات اكثر تعقيداً؟، وتطرح من جديد مسألة غابت الى حين عن التحديات الاستراتيجية التي عرفتها مرحلة ثنائية القطبية وهي مسألة توازن القوى. عالم اليوم في ظل كل هذه التحولات سبق ان وصفه البروفيسور بول كنيدي بأنّه “عالم مضطرب ولا مركزي”. وكنا قد اشرنا في بحث سابق الى أنّ انتفاء مركزية هذا العالم ستصبح حقيقة واقعة من حقائق العصر الجديد، لان العالم اليوم هو عالم متعدد القطبية اقتصادياً، ولكن لا يمكننا الجزم انه كذلك عسكرياً لكونه يبرز تفوقاً عسكرياً اميركيا على “المشاعات العالمية»، أي المياه الدولية والفضاء الخارجي والمجال الجوي فوق 15 ألف متر ..
وهذا التفاوت ما بين القوتين الاقتصادية والعسكرية يمثل اليوم الحالة الاستثنائية التي يجمع اغلب الاستراتيجيين بانها حالة لن تستمر طويلاً، فالكتل الاقتصادية تمتلك من المعرفة التكنولوجية والامكانات المادية ما سيمكنها سريعاً من اقتناء وتصنيع الاسلحة المتقدمة اللازمة لضمان الدفاع عن امنها الوطني ومصالحها الحيوية وهي القناعة التي وصل اليها قادة الاتحاد الاوروبي.. عند ذلك الوقت سوف تتعدد القطبية العسكرية ايضاً وستتوازن اسلحة الرعب من جديد.. ومهما امعنا النظر في تعددية القطبية عالمياً وقلنا بأن اميركا وروسيا والصين والاتحاد الاوروبي والهند تسارع الزمن في حرب المصالح الاقتصادية والاحتدامات الامنية، فإن التوترات الحقيقية اليوم تحدث بين الاقطاب الثلاثة الاولى ونعني اميركا والصين وروسيا قبل الجميع. ويحدد جون تشيبمان، المدير العام والرئيس التنفيذي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن أن «حروب القوى العظمى ليست حتمية النشوب في الوقت الراهن، إلا أنّ جيوش الدول الثلاث الرئيسية الكبرى ويقصد الولايات المتحدة والصين وروسيا بدأت في الاستعداد المبرمج لاحتمالات نشوب الصراع المسلح.. عند هذا الحد علينا ملاحظة المؤشرات الدالة التالية:
أولاً : لم يعد الاستراتيجيون يتحدثون عن جبهة واحدة للغرب، ذلك المفهوم الذي تحول الى كتلة استراتيجية غربية حاملة لمشروع سياسي واقتصادي وعسكري بعد الاعلان عن قيام الحلف الاطلسي عام 1952. الامر مختلف اليوم فان المبررات التي ادت لقيام هذا الحلف قد اختفت باختفاء الانظمة الاشتراكية، فهل يعني ذلك ان الغرب بات مفهوماً تاريخياً؟ ربما وادلة ذلك ان دول الاتحاد الأوروبي اعتمدت منذ عام 1998 سياسة دفاعية وأمنية مشتركة وزادت من حجم قوة الانتشار السريع إلى 60 ألف جندي و18 مجموعة قتالية تتكون كل منها من 1500 جندي. وهذا يعني فك الارتباط التدريجي مع الولايات المتحدة.
ثانياً : تفيد ارقام تقرير التوازن العسكري لعام 2018 أن دول الاتحاد الأوروبي شهدت أسرع نمو في العالم في تطوير قدراتها وتخصيصاتها لنفقاتها الدفاعية الفعلية، بل هي تحاول الحصول على تقنيات ما يسمى بالوثب المتقدم بغية تحديث قواتها العسكرية وتعزيزها. هل تفعل ذلك لكي تتحول الى دولة أوروبيةعظمى في حالة عودة بريطانيا الى الاتحاد الاوروبي وتوحيد القدرات النووية البريطانية الفرنسية؟
ثالثاً : الازدياد المتسارع للنفقات العسكرية، إذ بلغ الإنفاق العسكري العالمي 1,8 تريليون دولار عام 2018، وسجلت النفقات العسكرية الأميركية عام 2017 ارتفاعا بنسبة 4,6% للمرة الأولى وبلغت 649 مليار دولار، وتأتي الصين التي ارتفع إنفاقها بنسبة 8.3% في المركز الثاني بإنفاق عسكري يقدر بنحو 250 مليار دولار، اما إنفاق روسيا العسكري عام 2018 فلم يتعدَ مبلغ 61,4 مليار دولار، وهي في تراجع على الرغم من اهميتها النووية. ومن الواضح أن الصين تحقق قفزات نوعية في التقنيات العسكرية وانها تعد الدولة الأولى عالميا في الابتكارات الدفاعية..
تدل المؤشرات السابقة على ان التحدي الاكبر للقوة الاميركية هو التحدي الصيني، لذلك يسعى الرئيس الاميركي ترامب لمضاعفة الضغوط الاقتصادية عليها ويرسي نظاماً تحالفياً دولياً لاضعافها دون ان يدرك حقيقة ان الاستراتيجية علم يختلف عن مضاربات عالم رجال الاعمال وان سياسة حافة الهاوية التي لم تنفع مع كوريا الشمالية لن تحقق مآربها مع الصين.